[ ص: 221 ] وإذا تبين هذا فيقال : إذا كان الرجل أعجميا ، والآخر من العرب ، فنحن وإن كنا نقول مجملا : إن العرب أفضل جملة ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وغيره : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض ، إلا بالتقوى . الناس من آدم ، وآدم من تراب " [1] .
وقال : " إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء . الناس رجلان : مؤمن تقي ، وفاجر شقي " [2] .
ولذلك إذا كان الرجل من أفناء العرب [ والعجم ] [3] ، وآخر من قريش ، فهما [4] عند الله بحسب تقواهما : إن تماثلا فيها تماثلا في الدرجة عند الله ، وإن تفاضلا فيها تفاضلا في الدرجة . وكذلك إذا كان رجل من بني هاشم ، ورجل من الناس أو العرب [5] أو العجم ، فأفضلهما عند الله أتقاهما ، فإن تماثلا في التقوى تماثلا في الدرجة ، ولا يفضل أحدهما عند الله لا [6] بأبيه ولا ابنه ، ولا بزوجته ، ولا بعمه ، ولا بأخيه .
[ ص: 222 ] كما أن الرجلين إن كانا عالمين بالطب أو الحساب ، أو الفقه أو النحو ، أو غير ذلك ، فأكملهما بالعلم بذلك أعلمهما به ، ( * فإن تساويا في ذلك تساويا في العلم ، ولا يكون أحدهما أعلم بكون أبيه أو ابنه [7] أعلم من الآخر . وهكذا في الشجاعة والكرم ، والزهد والدين .
إذا تبين ذلك ، فالفضائل الخارجية لا عبرة بها عند الله تعالى * ) [8] ، إلا أن تكون سببا في زيادة الفضائل الداخلية [9] . وحينئذ فتكون الفضيلة بالفضائل الداخلية [10] ، وأما الفضائل البدنية فلا اعتبار بها إن لم تكن صادرة عن الفضيلة النفسانية .
وإلا فمن صلى وصام ، وقاتل وتصدق ، بغير نية خالصة لم يفضل بذلك ; فالاعتبار بالقلب .
كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب " [11] . [ ص: 223 ] وحينئذ فمن كان أكمل [12] في الفضائل النفسانية فهو أفضل مطلقا . وأهل السنة لا ينازعون [13] في كمال علي ، وأنه في الدرجة العليا من الكمال ، وإنما النزاع في كونه أكمل من الثلاثة [14] ، وأحق بالإمامة منهم ، وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك .
وهذا الباب للناس فيه طريقان :
منهم من يقول : إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف [15] ; فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به ، فلا يعلم ذلك إلا بالخبر [16] الصادق الذي يخبر عن الله .
ومنهم من يقول : قد يعلم ذلك بالاستدلال .
وأهل السنة يقولون : إن كلا من الطريقين إذا أعطي حقه من السلوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي . ويقولون : نحن نقرر ذلك في عثمان ، فإذا ثبت ذلك في عثمان ، كان في أبي بكر وعمر بطريق الأولى ; فإن تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان لم ينازع فيه أحد ، بل [17] وتفضيلهما على عثمان وعلي لم يتنازع [18] فيه من له عند الأمة قدر : لا من الصحابة ، ولا التابعين ، ولا أئمة السنة ، بل إجماع المسلمين [ على [ ص: 224 ] ذلك ] [19] قرنا بعد قرن ، أعظم من إجماعهم على إثبات شفاعة نبينا في أهل الكبائر وخروجهم من النار ، وعلى إثبات الحوض والميزان ، وعلى قتال الخوارج ومانعي الزكاة ، وعلى صحة إجارة العقار ، وتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها .
بل إيمان [20] أبي بكر وعمر وعدالتهما مما [21] وافقت عليه الخوارج - مع تعنتهم - وهم ينازعون في إيمان علي وعثمان . واتفقت الخوارج على تكفير علي ، وقدحهم فيه أكثر [22] من قدحهم في عثمان . والزيدية بالعكس . والمعتزلة كان قدماؤهم يميلون إلى الخوارج ، ومتأخروهم يميلون إلى الزيدية . كما أن الرافضة [23] قدماؤهم يصرحون بالتجسيم ، ومتأخروهم على قول الجهمية والمعتزلة . وكانت الشيعة الأولى لا يشكون في تقديم أبي بكر وعمر . وأما عثمان فكثير من الناس يفضل عليه عليا ، وهذا قول كثير من الكوفيين وغيرهم ، وهو القول الأول للثوري ، ثم رجع عنه . وطائفة أخرى لا تفضل أحدهما على صاحبه .
وهو الذي حكاه ابن القاسم [24] عن مالك عمن أدركه من المدنيين ، لكن قال : ما أدركت أحدا ممن يقتدى به يفضل أحدهما على صاحبه . وهذا يحتمل السكوت عن الكلام في ذلك ، فلا يكون قولا ، وهو الأظهر ، ويحتمل التسوية بينهما . وذكر ابن القاسم [25] عنه أنه لم يدرك [ ص: 225 ] أحدا ممن يقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر على عثمان وعلي .
وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان ، وعليه استقر أمر [26] أهل السنة ، وهو مذهب أهل الحديث ، ومشايخ الزهد والتصوف ، وأئمة الفقهاء : كالشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وإحدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابه [27] .
قال مالك : لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها . وقال الشافعي وغيره : إنه بهذا قصد والي المدينة الهاشمي ، ضرب مالكا ، وجعل طلاق المكره سببا ظاهرا .
وهو أيضا مذهب جماهير أهل الكلام : الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة .
وقال أيوب السختياني : من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار . وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما : أنهم اتفقوا على تقديم عثمان ; ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدم عثمان ، هل يعد مبتدعا ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد .
فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد .
وأما الطريق التوقيفي [28] فالنص والإجماع : أما النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال : كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي : أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان [29] .
[ ص: 226 ] وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة ، وأن ثلاثة تركوه لثلاثة : عثمان وعلي وعبد الرحمن ، وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما ، وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام : حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم [30] يشاور المسلمين .
وقد اجتمع [31] بالمدينة أهل الحل والعقد ، حتى أمراء الأنصار ، وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة ، فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق ، ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل ; فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر .
وإنما قلنا : يلزم أن يكون هو الأحق ; لأنه لو لم يكن ذلك للزم : إما جهلهم ، وإما ظلمهم . فإنه إذا لم يكن أحق ، وكان غيره أحق ، فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهالا ، وإن علموه وعدلوا عن الأحق [32] إلى غيره ، كانوا ظلمة . فتبين أن عثمان إن لم يكن أحق ، لزم : إما جهلهم وإما ظلمهم ، وكلاهما منتف ; لأنهم أعلم بعثمان وعلي منا ، وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا ، وأعلم بما دل عليه القرآن في ذلك منا ، ولأنهم خير القرون ، فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل ، مع أنهم أحوج إلى علمها منا ; فإنهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمناها نحن لكنا أفضل منهم ، وذلك ممتنع .
[ ص: 227 ] وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم ; فإن ذلك قدح في عدالتهم ، وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة . ولأن القرآن أثنى عليهم ثناء [33] يقتضي غاية المدح ، فيمتنع [34] إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها ; فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية فقط ، بل هو ظلم لكل من منع نفعه من ولاية الأحق بالولاية ، فإنه إذا كان راعيان : أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها ، كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها من نفعه .
ولأن القرآن والسنة دلا على أن هذه الأمة خير الأمم ، وأن خيرها أولها ، فإن كانوا مصرين على ذلك ، [ لزم ] [35] أن تكون هذه الأمة شر الأمم ، وأن لا يكون أولها خيرها .
ولأنا [36] نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة ، فإن كان أولئك ظالمين مصرين على الظلم ، فالأمة كلها ظالمة ، فليست خير الأمم .
وقد قيل لابن مسعود لما ذهب إلى الكوفة : من وليتم ؟ قال : " ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل " . وذو الفوق هو السهم [37] ، يعني أعلانا سهما في الإسلام .
فإن قيل : قد يكون أحق بالإمامة ، وعلي أفضل منه .
[ ص: 228 ] قيل : أولا : هذا السؤال لا يمكن أن يورده أحد من الإمامية ; لأن الأفضل عندهم أحق بالإمامة ، وهذا قول الجمهور من أهل السنة .
وهنا مقامان : إما أن يقال : الأفضل أحق بالإمامة ، لكن يجوز تولية المفضول : إما مطلقا ، وإما للحاجة . وإما أن يقال : ليس كل من كان أفضل عند الله يكون أحق بالإمامة .
وكلاهما منتف هاهنا . أما الأول ، فلأن الحاجة إلى تولية المفضول في الاستحقاق كانت منتفية ; فإن القوم كانوا قادرين على تولية علي ، وليس هناك من ينازع أصلا ، ولا يحتاجون إلى رغبة ولا رهبة ، ولم يكن هناك لعثمان شوكة تخاف ، بل التمكن من تولية هذا كان كالتمكن من تولية هذا . فامتنع أن يقال : ما كان يمكن إلا تولية المفضول .
وإذا كانوا قادرين ، وهم يتصرفون للأمة [38] لا لأنفسهم ، لم يجز لهم [39] تفويت مصلحة الأمة من ولاية الفاضل ; فإن الوكيل والولي المتصرف لغيره ، ليس له أن يعدل عما هو أصلح لمن ائتمنه ، مع كونه قادرا على تحصيل المصلحة ، فكيف إذا كانت قدرته على الأمرين سواء ؟
وأما الثاني ، فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق ، وكل من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك . والخلافة كانت خلافة نبوة ، لم تكن ملكا ، فمن خلف النبي وقام مقامه كان أشبه به ، ومن كان أشبه به كان أفضل ، فالذي يخلفه أشبه به من غيره ، والأشبه به أفضل ، فالذي يخلفه أفضل .
[ ص: 229 ] وأما الطريق النظرية فقد ذكر ذلك من ذكره من العلماء ، فقالوا : عثمان كان أعلم بالقرآن ، وعلي أعلم بالسنة ، وعثمان أعظم جهادا بماله ، وعلي أعظم جهادا بنفسه ، وعثمان أزهد في الرياسة ، وعلي أزهد في المال ، وعثمان أورع عن الدماء [40] ، وعلي أورع عن الأموال ، وعثمان حصل له من جهاد نفسه [41] ; حيث صبر عن القتال ولم يقاتل ما لم يحصل مثله لعلي .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله " [42] .
وسيرة [43] عثمان في الولاية كانت [44] أكمل من سيرة علي ، فقالوا : فثبت أن عثمان أفضل ; لأن علم القرآن أعظم من علم السنة .
وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة " [45] .
وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب ، وكان أحيانا يقرؤه في ركعة . وعلي قد اختلف فيه : هل حفظ القرآن كله أم لا ؟
[ ص: 230 ] والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس ، كما في قوله تعالى : ( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) [ سورة التوبة : 41 ] الآية ، وقوله : ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) [ سورة التوبة : 20 ] الآية ، وقوله : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) [ سورة الأنفال : 72 ] [46] .
وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم ; فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله ، والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة ، لا يوافق أنه يقتل في الجهاد ; ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ، ولا يهون عليه إخراج ماله ، ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم ، ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم .
وأيضا فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي ، وله من الهجرة إلى أرض الحبشة ما لم يحصل مثله لعلي ، وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبية ما لم يحصل مثله لعلي ، وإنما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان ، وبايع بإحدى يديه عن عثمان ، وهذا من أعظم الفضل ; حيث بايع عنه النبي - صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 231 ] وأما الزهد والورع في الرياسة والمال ، فلا ريب أن عثمان تولى ثنتي عشرة سنة ، ثم قصد الخارجون عليه قتله ، وحصروه وهو خليفة الأرض ، والمسلمون كلهم رعيته ، وهو مع هذا لم يقتل مسلما ، ولا دفع عن نفسه بقتال ، بل صبر حتى قتل .
لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء ما لا يعطيه لغيرهم ، وحصل منه نوع توسع في الأموال ، وهو - رضي الله عنه - ما فعله إلا متأولا فيه [47] ، له اجتهاد وافقه عليه جماعة [48] من الفقهاء ، منهم من يقول : إن ما أعطاه الله للنبي من الخمس والفيء هو لمن يتولى الأمر بعده ، كما هو قول أبي ثور وغيره . ومنهم من يقول : ذوو القربى المذكورون في القرآن هم ذوو قربى الإمام . ومنهم من يقول : الإمام العامل على الصدقات يأخذ منها مع الغنى . وهذه كانت مآخذ [49] عثمان - رضي الله عنه - كما هو منقول عنه . فما فعله هو نوع تأويل يراه طائفة من العلماء .
وعلي - رضي الله عنه - لم يخص أحدا من أقاربه بعطاء ، لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن متبدئا بالقتال [50] ، حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين ، وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلا وافقه عليه طائفة من العلماء ، وقالوا : إن هؤلاء بغاة ، والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله : ( فقاتلوا التي تبغي ) [ سورة الحجرات : 9 ] [ ص: 232 ] لكن نازعه أكثر العلماء ، كما نازع عثمان أكثرهم ، وقالوا : إن الله تعالى قال : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ) الآية [ سورة الحجرات : 9 ] .


