فصل
قال الرافضي : [1] " الرابع عشر : أن عثمان فعل أمورا لا يجوز فعلها ، حتى أنكر عليه المسلمون كافة ، واجتمعوا على قتله أكثر من اجتماعهم على إمامته وإمامة صاحبيه " .
[ ص: 313 ] والجواب من وجوه : أحدها أن هذا من أظهر الكذب ، فإن الناس كلهم بايعوا عثمان في المدينة وفي جميع الأمصار ، لم يختلف في إمامته [2] اثنان ، ولا تخلف عنها أحد ، ولهذا قال الإمام أحمد وغيره : إنها كانت أوكد من غيرها [3] باتفاقهم عليها .
وأما الذين قتلوه فنفر قليل ، قال ابن الزبير : يعيب قتلة عثمان : " خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية ، فقتلهم الله كل قتلة ، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب " يعني هربوا ليلا .
ومعلوم بالتواتر أن أهل الأمصار لم يشهدوا قتله فلم يقتله بقدر من بايعه ، وأكثر أهل المدينة لم يقتلوه ، ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله كما دخلوا في بيعته ، بل الذين قتلوه أقل من عشر معشار من بايعه ، فكيف يقال إن اجتماعهم على قتله كان أكثر من اجتماعهم على بيعته ؟ ! لا يقول هذا إلا من هو من أجهل الناس بأحوالهم ، وأعظمهم تعمدا للكذب عليهم .
الثاني : أن يقال : الذين أنكروا على علي وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه ، فإن عليا قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة وقطعه كثير من عسكره : خرجوا عليه وكفروه ، وقالوا : أنت ارتددت عن الإسلام ، لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الإسلام .
[ ص: 314 ] ثم إن واحدا من هؤلاء قتله قتل مستحل لقتله متقرب إلى الله بقتله معتقدا فيه أقبح مما اعتقده قتلة عثمان فيه .
فإن الذين خرجوا على عثمان لم يكونوا مظهرين لكفره ، وإنما كانوا يدعون الظلم وأما الخوارج فكانوا [4] يجهرون بكفر علي ، وهم أكثر من السرية التي قدمت المدينة لحصار عثمان حتى قتل .
فإن كان هذا حجة في القدح في عثمان كان ذلك حجة في القدح في علي بطريق الأولى ، والتحقيق أن كليهما [5] حجة باطلة ، لكن القادح في عثمان بمن قتله أدحض حجة من القادح في علي بمن قاتله ، فإن المخالفين لعلي المقاتلين له كانوا أضعاف المقاتلين لعثمان ، بل الذين قاتلوا عليا كانوا أفضل باتفاق المسلمين من الذين حاصروا عثمان وقتلوه ، وكان في المقاتلين [6] لعلي أهل زهد وعبادة ، ولم يكن قتلة عثمان لا في الديانة ولا في إظهار تكفيره مثلهم ، ومع هذا فعلي خليفة راشد والذين استحلوا دمه ظالمون معتدون فعثمان أولى بذلك من علي .
الثالث : أن يقال : قد علم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد مع أن بيعة الصديق تخلف عنها سعد بن عبادة ، ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر ، ومات في خلافة [ ص: 315 ] عمر ، ولم يكن تخلف سعد عنها قادحا فيها ، لأن سعدا لم يقدح في الصديق ولا في أنه أفضل المهاجرين ، بل كان هذا معلوما عندهم ، لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير .
وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الأئمة من قريش " [7] فكان ما ظنه سعد خطأ مخالفا للنص المعلوم ، فعلم أن تخلفه خطأ بالنص ، ( 2 وإذا علم الخطأ بالنص 2 ) [8] لم يحتج فيه إلى الإجماع .
وأما بيعة عثمان فلم يتخلف عنها أحد مع كثرة المسلمين وانتشارهم من إفريقية إلى خراسان ، ومن سواحل الشام إلى أقصى اليمن ، ومع كونهم كانوا ظاهرين على عدوهم من المشركين وأهل الكتاب يقاتلونهم ، وهي في زيادة فتح وانتصار ، ودوام دولة ، ودوام المسلمين على مبايعته والرضا عنه ست سنين نصف خلافته ، معظمين له مادحين له ، لا يظهر من أحد منهم التكلم فيه بسوء .
ثم بعد هذا صار يتكلم فيه بعضهم ، وجمهورهم لا يتكلم فيه إلا بخير وكانت قد طالت عليهم إمارته ، فإنه بقي اثنتي عشرة سنة لم تدم خلافة أحد من الأربعة ما دامت خلافته ، فإن خلافة الصديق كانت سنتين وبعض الثالثة ، وخلافة عمر عشر سنين وبعض الأخرى ، وخلافة علي أربع سنين وبعض الخامسة ، ونشأ في خلافته من دخل في الإسلام [ ص: 316 ] كرها فكان منافقا مثل ابن سبأ وأمثاله ، وهم الذين سعوا في الفتنة بقتله .
وفي المؤمنين من يسمع المنافقين كما قال تعالى : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ) [ سورة التوبة : 47 ] أي : وفيكم من يسمع [9] منهم فيستجيب لهم ، ويقبل منهم لأنهم يلبسون عليه .
وهكذا فعل أولئك المنافقون : لبسوا على بعض من كان عندهم يحب عثمان ويبغض من كان يبغضه حتى تقاعد بعض الناس عن نصره .
وكان الذين اجتمعوا على قتله عامتهم من أوباش القبائل ممن لا يعرف له في الإسلام ذكر بخير ولولا الفتنة لما ذكروا .
وأما علي فمن حين تولى تخلف عن بيعته قريب من نصف المسلمين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، ممن قعد عنه فلم يقاتل معه ، ولا قاتله مثل أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة ومنهم من قاتله [10] .
ثم كثير من الذين بايعوه رجعوا عنه منهم من كفره واستحل دمه ، ومنهم من ذهب إلى معاوية كعقيل أخيه وأمثاله .
[ ص: 317 ] ولم تزل شيعة عثمان القادحين في علي تحتج بهذا على أن عليا لم يكن خليفة راشدا وما كانت [11] حجتهم أعظم من حجة الرافضة ، فإذا [12] كانت حجتهم داحضة وعلي قتل مظلوما فعثمان أولى بذلك .


