الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              1659 - عبد الله بن مسعود بن غافل - بالغين المنقوطة والفاء - بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، أبو عبد الرحمن بن الهذلي، حليف بني زهرة، وكان أبوه مسعود بن غافل قد حالف في الجاهلية عبد الله بن الحارث بن زهرة، وأم عبد الله بن مسعود أم عبد بنت عبد ود بن سواء بن قريم بن صاهلة من بني هذيل أيضا، وأمها زهرية قيلة بنت الحارث بن زهرة.

                                                              كان إسلامه قديما في أول الإسلام في حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب قبل إسلام عمر بزمان، وكان سبب إسلامه أنه كان يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ شاة حائلا من تلك الغنم، فدرت عليه لبنا غزيرا.

                                                              ومن إسناد حديثه هذا ما رواه أبو بكر بن عياش وغيره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود. قال: كنت أرعى غنما [ ص: 988 ] لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام، هل من لبن؟ فقلت: نعم، ولكنني مؤتمن. قال: فهل من شاة حائل لم ينز عليها الفحل؟ فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن فحلبه في إناء وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص فقلص، ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: يرحمك الله، فإنك عليم معلم. 50 قال أبو عمر: ثم ضمه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يلج عليه ويلبسه نعليه، ويمشي أمامه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذنك علي أن ترفع الحجاب، وأن تسمع سوادي حتى أنهاك، وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك،  شهد بدرا والحديبية، وهاجر الهجرتين جميعا: الأولى إلى أرض الحبشة، والهجرة الثانية من مكة إلى المدينة، فصلى القبلتين، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فيما ذكر في حديث العشرة بإسناد حسن جيد.

                                                              حدثنا عبد الله بن محمد، قال حدثنا ابن جامع، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا أبو حذيفة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن ابن ظالم، عن سعيد بن زيد، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء، فذكر عشرة في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم [ ص: 989 ] .

                                                              وروى منصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وإسرائيل بن يونس، كلهم عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت مؤمرا أحدا - وفي رواية بعضهم مستخلفا أحدا - من غير مشورة لأمرت - وقال بعضهم: لاستخلفت ابن أم عبد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لأمتي ما سخط لها ابن أم عبد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهدوا هدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد.  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رجل عبد الله أو رجلا عبد الله في الميزان أثقل من أحد. حدثنا سعيد بن نصر، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أم موسى، قالت: سمعت عليا كرم الله وجهه يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود أن يصعد شجرة فيأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه، فضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يضحككم؟ لرجلا عبد الله في الميزان أثقل من أحد. وقال صلى الله عليه وسلم: استقرئوا القرآن من أربعة، فبدأ بعبد الله بن مسعود. حدثنا سعيد بن نصر، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا محمد بن وضاح، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن شقيق أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمر، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد، فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة [ ص: 990 ] .

                                                              وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد. وبعضهم يرويه: من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد.

                                                              حدثنا سعيد، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا ابن وضاح، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بين أبي بكر وعمر وعبد الله يصلي، فافتتح بالنساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. ثم قعد يسأل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سل تعطه، وقال فيما سأل: اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، ومرافقة نبيك - يعني محمدا - في أعلى جنة الخلد. فأتى عمر عبد الله بن مسعود يبشره، فوجد أبا بكر خارجا قد سبقه، فقال: إن فعلت فقد كنت سباقا للخير. وكان رضي الله عنه رجلا قصيرا نحيفا يكاد طوال الرجال يوازونه جلوسا، وهو قائم، وكانت له شعرة تبلغ أذنيه. وكان لا يغير شيبه.

                                                              حدثنا خلف بن قاسم، حدثنا الحسن بن رشيق الدولابي، حدثنا عثمان بن عبد الله، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقلت: يا رسول الله، إني قتلت أبا جهل. قال: بالله الذي لا إله غيره، لأنت قتلته! قلت: نعم، فاستخفه الفرح، ثم قال: انطلق فأرنيه.

                                                              قال: فانطلقت معه حتى قمت به على رأسه. فقال: الحمد لله الذي أخزاك [ ص: 991 ] هذا فرعون هذه الأمة، جروه إلى القليب . قال: وقد كنت ضربته بسيفي فلم يعمل فيه، فأخذت سيفه فضربته به حتى قتلته، فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه.
                                                              وقال الأعمش، عن شقيق أبي وائل: سمعت ابن مسعود يقول: إني لأعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، وما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيما نزلت ومتى نزلت . قال أبو وائل: فما سمعت أحدا أنكر ذلك عليه.

                                                              وقال حذيفة: لقد علم المحفظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن مسعود كان من أقربهم وسيلة وأعلمهم بكتاب الله.

                                                              وروى علي بن المديني، قال: حدثنا سفيان، حدثنا جامع بن أبي راشد، سمع حذيفة يحلف بالله ما أعلم أحدا أشبه دلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أقربهم وسيلة إلى الله يوم القيامة.

                                                              قال علي: وقد روى هذا الحديث الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن شقيق، قال: سمعت حذيفة يقول: إن أشبه الناس هديا ودلا وسمتا بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود من حين يخرج إلى أن يرجع، لا أدري ما يصنع في بيته، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة.

                                                              قال علي: وقد رواه عبد الرحمن بن يزيد، عن حذيفة، حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق، قال سمعت عبد الرحمن [ ص: 992 ] بن يزيد قال: قلت لحذيفة: أخبرنا برجل قريب السمت والهدي والدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلزمه، فقال: ما أعلم أحدا أقرب سمتا ولا هديا ولا دلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد.

                                                              وروى وكيع وجماعة معه عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال قال لي عبد الله بن عباس: أي القراءتين نقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد؟ فقال:

                                                              أجل، هي الآخرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبرئيل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه عليه مرتين، فحضر ذلك عبد الله، فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل.


                                                              وروى أبو معاوية وغيره عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات، فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يحكي المصحف عن ظهر قلبه، فغضب عمر غضبا شديدا، وقال: ويحك! ومن هو؟ قال: عبد الله بن مسعود. قال: فذهب عنه ذلك الغضب، وسكن، وعاد إلى حاله.

                                                              وقال: والله ما أعلم من الناس أحدا هو أحق بذلك منه، وذكر تمام الخبر.

                                                              وبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة مع عمار بن ياسر، وكتب إليهم: إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا.

                                                              وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدوا بهما، واسمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وقال فيه عمر: كنيف ملئ علما [ ص: 993 ] .

                                                              وسئل علي رضي الله عنه عن قوم من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود، فقال: أما ابن مسعود فقرأ القرآن، وعلم السنة، وكفى بذلك. وروى الأعمش، عن شقيق أبي وائل، قال: لما أمر عثمان في المصاحف بما أمر قام عبد الله بن مسعود خطيبا، فقال: أيأمروني أن أقرأ القرآن على قراءة زيد بن ثابت، والذي نفسي بيده لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وإن زيد بن ثابت لذو ذؤابة يلعب به الغلمان، والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني ولو أعلم أحدا تبلغنيه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته، ثم استحيى مما قال، فقال: وما أنا بخيركم. قال شقيق: فقعدت في الحلق، فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما سمعت أحدا أنكر ذلك عليه ولا رد ما قال.

                                                              حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر، حدثنا ابن دليم، حدثنا ابن وضاح، حدثنا يوسف بن علي ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: لما بعث عثمان إلى عبد الله بن مسعود يأمره بالخروج إلى المدينة اجتمع إليه الناس، وقالوا: أقم ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه منه. فقال لهم عبد الله: إن له علي طاعة، وأنها ستكون أمور وفتن، لا أحب أن أكون أول من فتحها، فر الناس، وخرج إليه. وروي عن ابن مسعود أنه قال حين نافر الناس عثمان رضي الله عنه: ما أحب أني رميت عثمان بسهم.

                                                              وقال بعض أصحابه: ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان شيئا قط، وسمعته يقول: لئن قتلوه لا يستخلفون بعده مثله. ولما مات ابن مسعود نعي إلى أبي الدرداء، فقال: ما ترك بعد مثله. ومات ابن مسعود رحمه الله بالمدينة سنة [ ص: 994 ] اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان. وقيل: بل صلى عليه الزبير، ودفنه ليلا بإيصائه بذلك إليه، ولم يعلم عثمان بدفنه، فعاتب الزبير على ذلك، وكان يوم توفي ابن بضع وستين سنة.

                                                              حدثنا قاسم بن محمد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا محمد بن سنجر، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزبير وبين ابن مسعود رضي الله عنهما.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية