الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              1863 - عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس بن حصين العنسي، ثم المذحجي، قد رفعناه في نسبه إلى عنس بن مالك بن أدد بن زيد في باب أبيه ياسر من هذا الكتاب، يكنى أبا اليقظان حليف لبني مخزوم، كذا قال ابن شهاب وغيره وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: وممن شهد بدرا عمار بن ياسر حليف لبني مخزوم، وقال الواقدي، وطائفة من أهل العلم بالنسب والخبر: إن ياسرا والد عمار عرني قحطاني مذحجي، من عنس في مذحج، إلا أن ابنه [ ص: 1136 ] عمار ولي لبني مخزوم، لأن أباه ياسرا تزوج أمة لبعض بني مخزوم، فولدت له له عمارا، وذلك أن ياسرا والد عمار قدم مكة مع أخوين له - أحدهما يقال له الحارث، والثاني مالك، في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فخالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية بنت خياط ، فولدت له عمارا، فأعتقه أبو حذيفة، فمن هذا هو عمار مولى لبني مخزوم، وأبوه عرني كما ذكرنا لا يختلفون في ذلك، وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب، حتى انفتق له فتق في بطنه، ورغموا وكسروا ضلعا من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان. وقد ذكرنا في باب ياسر وفي باب سمية، ما يكمل به علم ولاء عمار ونسبه.

                                                              قال أبو عمر رحمه الله: كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه، واطمأن بالإيمان قلبه، فنزلت فيه : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . ذا مما اجتمع أهل التفسير عليه.

                                                              وهاجر إلى أرض الحبشة، وصلى القبلتين، وهو من المهاجرين الأولين، ثم شهد بدرا والمشاهد كلها، وأبلى ببدر بلاء حسنا، ثم شهد اليمامة، فأبلى فيها أيضا، ويومئذ قطعت أذنه.

                                                              وذكر الواقدي: حدثنا عبد الله بن نافع عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال [ ص: 1137 ] .

                                                              رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون! أنا عمار بن ياسر، هلموا إلي، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تدبدب وهو يقاتل أشد القتال.  وكان فيما ذكر الواقدي طويلا أشهل بعيد ما بين المنكبين.

                                                              قال إبراهيم بن سعد: بلغنا أن عمار بن ياسر قال: كنت تربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سنه لم يكن أحد أقرب به سنا مني.

                                                              روى سفيان، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله عز وجل : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس قال عمار بن ياسر كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها . قال أبو جهل بن هشام. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه .

                                                              ويروى: إلى أخمص قدميه. وحدثنا خلف بن قاسم، حدثنا عبد الله بن عامر، حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا يحيى بن سليمان، حدثنا يحيى بن أبان، حدثنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، ولم يقل فيه يحيى بن سليمان عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاء أن أقول فيه إلا قلت إلا عمار بن ياسر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ملئ عمار إيمانا إلى أخمص قدميه   [ ص: 1138 ] .

                                                              قال عبد الرحمن بن أبزى: شهدنا مع علي رضي الله عنه صفين في ثمانمائة - من بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمار بن ياسر.

                                                              أنبأنا عبد الله، أنبأنا أحمد، حدثنا يحيى بن سليمان، حدثنا معلى، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة، قالت: ما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أشاء أن أقول فيه إلا قلت إلا عمار بن ياسر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنيه إيمانا. ومن حديث خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أبغض عمارا أبغضه الله تعالى. قال خالد: فما زلت أحبه من يومئذ.

                                                              وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اشتاقت الجنة إلى علي، وعمار، وسلمان، وبلال رضي الله عنهم. ومن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاء عمار يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فعرف صوته، فقال: مرحبا بالطيب المطيب ائذنوا له. وروى الأعمش، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: شهدنا مع علي رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه، كأنه علم لهم. وسمعت عمارا يقول يومئذ لهاشم بن عقبة: يا هاشم، تقدم ، الجنة تحت الأبارقة ، اليوم ألقى [ ص: 1139 ] الأحبة: محمدا وحزبه. والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، ثم قال:


                                                              نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله     ضربا يزيل الهام عن مقيله
                                                              ويذهل الخليل عن خليله     أو يرجع الحق إلى سبيله

                                                              قال: فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ.

                                                              وقال أبو مسعود وطائفة لحذيفة حين احتضر وأعيد ذكر الفتنة: إذا اختلف الناس بمن تأمرنا؟ قال: عليكم بابن سمية، فإنه لن يفارق الحق حتى يموت، أو قال: فإنه يدور مع الحق حيث دار. وبعضهم يرفع هذا الحديث عن حذيفة.

                                                              وروى الشعبي، عن الأحنف بن قيس في خبر صفين قال: ثم حمل عمار فحمل عليه ابن جزء السكسكي، وأبو الغادية الفزاري، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جزء فاحتز رأسه ... وذكر تمام الحديث، وقد ذكرته فيما خرجت من طرق حديث عمار: تقتلك الفئة الباغية. وروى وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال:

                                                              لكأني أنظر إلى عمار يوم صفين واستسقى فأتي بشربة من لبن فشرب، فقال: اليوم ألقى الأحبة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن، ثم استسقى، فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء فيه [ ص: 1140 ] ضياح من لبن، فقال عمار - حين شربه: الحمد لله، الجنة تحت الأسنة، ثم قال: والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أن مصلحينا على الحق وأنهم على الباطل، ثم قاتل حتى قتل.

                                                              روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب ، قال: قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطيعوا لهما، واقتدوا بهما، فإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة .

                                                              قال أبو عمر رحمه الله: إنما قال عمر في عمار وابن مسعود، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه - والله أعلم - من رواية فطر بن خليفة وغيره، عن كثير أبي إسماعيل، من عبد الله بن مليل، عن علي رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يكن نبي إلا أعطي سبعة نجباء وزراء ورفقاء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعمار، وأبو ذر، وحذيفة، والمقداد، وبلال. وتواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقتل عمار الفئة الباغية. وهذا من إخباره بالغيب وأعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو من أصح الأحاديث.

                                                              وكانت صفين في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين، ودفنه علي رضي الله عنه [ ص: 1141 ] في ثيابه ولم يغسله. وروى أهل الكوفة أنه صلى عليه، وهو مذهبهم في الشهداء إنهم لا يغسلون، ولكنهم يصلى عليهم. وكانت سن عمار يوم قتل نيفا على تسعين، وقيل: ثلاثا وتسعين.  وقيل إحدى وتسعين. وقيل اثنتين وتسعين سنة.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية