الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2721 - الوليد بن عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسم أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف [وقد قيل:

                                                              إن ذكوان كان عبدا لأمية فاستلحقه، والأول أكثر] وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس أم عثمان بن عفان، فالوليد بن عقبة أخو عثمان لأمه. يكنى أبا وهب. أسلم يوم الفتح هو وأخوه خالد بن عقبة، وأظنه يومئذ كان قد ناهز الاحتلام. قال الوليد: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيمسح على رءوسهم، ويدعو لهم بالبركة،  قال: فأتي بي إليه وأنا مضمخ بالخلوق، فلم يمسح على رأسي، ولم [ ص: 1553 ] يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني، فلم يمسحني من أجل الخلوق. وهذا الحديث رواه جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن أبي موسى الهمداني، ويقال الهمذاني، كذلك ذكره البخاري على الشك عن الوليد بن عقبة. وقالوا:

                                                              وأبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صبيا يوم الفتح.

                                                              ويدل أيضا على فساد ما رواه أبو موسى المجهول أن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، فكانت هجرتها في الهدنة؟ بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة. وقد ذكرنا الخبر بذلك في باب أم كلثوم، ومن كان غلاما مخلقا يوم الفتح ليس يجيء منه مثل هذا، وذلك واضح والحمد لله رب العالمين .

                                                              ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل :

                                                              إن جاءكم فاسق بنبإ نزلت في الوليد بن عقبة، وذلك أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقا، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا وأبوا من أداء الصدقة،  وذلك أنهم خرجوا إليه فهابهم، ولم يعرف ما عندهم، فانصرف عنهم وأخبر بما ذكرنا، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبت فيهم، فأخبروه أنهم متمسكون بالإسلام، ونزلت :

                                                              يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ الآية. وروي عن مجاهد وقتادة مثل ما ذكرنا، حدثنا خلف بن قاسم، حدثنا ابن المفسر بمصر، حدثنا أحمد بن علي، حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن [ ص: 1554 ] هلال الوزان، عن ابن أبي ليلى في قوله عز وجل: إن جاءكم فاسق بنبإ الآية، قال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ومن حديث الحكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ، قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد ابن عقبة في قصة ذكرها: فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون. ثم ولاه عثمان الكوفة وعزل عنها سعد بن أبي وقاص، فلما قدم الوليد على سعد قال له سعد: والله ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعن أبا إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم والله ستجعلونها ملكا.

                                                              وروى جعفر بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، قال:

                                                              لما قدم الوليد بن عقبة أميرا على الكوفة أتاه ابن مسعود فقال له: ما جاء بك؟ قال: جئت أميرا. فقال ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس.

                                                              وله أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله، غفر الله لنا وله، فلقد كان من رجال قريش ظرفا وحلما وشجاعة وأدبا، وكان من الشعراء المطبوعين، وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون: كان الوليد بن عقبة فاسقا شريب خمر، وكان شاعرا كريما [تجاوز الله عنا وعنه ] .

                                                              قال أبو عمر: أخباره في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي مشهورة كثيرة، يسمج بنا ذكرها هنا، ونذكر منها طرفا: ذكر عمر بن شبة ، قال:

                                                              حدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، قال: صلى الوليد [ابن عقبة] بأهل الكوفة صلاة الصبح أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال: أزيدكم. فقال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم [ ص: 1555 ] .

                                                              قال: وحدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأجلح، عن الشعبي في حديث الوليد بن عقبة حين شهدوا عليه، فقال الحطيئة:


                                                              شهد الحطيئة يوم يلقى ربه أن الوليد أحق بالغدر     نادى وقد تمت صلاتهم
                                                              أأزيدكم سكرا وما يدري     فأبوا أبا وهب ولو أذنوا
                                                              لقرنت بين الشفع والوتر     كفوا عنانك إذ جريت ولو
                                                              تركوا عنانك لم تزل تجري

                                                              وقال أيضا:


                                                              تكلم في الصلاة وزاد فيها     علانية وجاهر بالنفاق
                                                              ومج الخمر في سنن المصلى     ونادى والجميع إلى افتراق
                                                              أزيدكم على أن تحمدوني     فما لكم وما لي من خلاق

                                                              وخبر صلاته بهم وهو سكران، وقوله: أزيدكم - بعد أن صلى الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار. قال مصعب: كان الوليد بن عقبة من رجال قريش وشعرائها، وكان له خلق ومروءة، استعمله عثمان على الكوفة إذ عزل عنها سعدا، فحمدوه وقتا، ثم رفعوا عليه، فعزله عنهم، وولى سعيد بن العاص [ الكوفة ] ، وقال بعض شعرائهم:


                                                              فررت من الوليد إلى سعيد     كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا
                                                              يلينا من قريش كل عام     أمير محدث أو مستشار
                                                              لنا نار نخوفها فنخشى     وليس لهم ولا يخشون نار

                                                              وقد روي فيما ذكر الطبري أنه تعصب عليه قوم من أهل الكوفة بغيا وحسدا، وشهدوا عليه زورا أنه تقيأ الخمر، وذكر القصة وفيها: إن عثمان [ ص: 1556 ] قال له: يا أخي، اصبر، فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك. وهذا الخبر من نقل أهل الأخبار لا يصح عند أهل الحديث، ولا له عند أهل العلم أصل.

                                                              والصحيح عندهم في ذلك ما رواه عبد العزيز بن المختار، وسعيد بن أبي عروبة، عن عبد الله الداناج، عن حصين بن المنذر أبي ساسان، أنه ركب إلى عثمان ، فأخبره بقصة الوليد، وقدم على عثمان رجلان فشهدا عليه بشرب الخمر، وأنه صلى الغداة بالكوفة أربعا، ثم قال: أزيدكم، فقال أحدهما: رأيته يشربها، وقال الآخر: رأيته يتقيأها. فقال عثمان : إنه لم يتقيأها حتى شربها.

                                                              وقال لعلي: أقم عليه الحد، فقال علي لابن أخيه عبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد. فأخذ السوط وجلده، وعثمان يعد، حتى بلغ أربعين فقال علي: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة. وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال:

                                                              جلد علي الوليد بن عقبة في الخمر أربعين جلدة بسوط له طرفان. قال أبو عمر: أضاف الجلد إلى علي لأنه أمر به على الوجه الذي تقدم في الخمر.

                                                              [قال أبو عمر :] لم يرو الوليد بن عقبة سنة يحتاج فيها إليه.

                                                              وروى ابن إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن الوليد بن عقبة، قال:

                                                              ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك. وسكن الوليد بن عقبة المدينة، ثم نزل الكوفة وبنى بها دارا، فلما قتل عثمان نزل البصرة، ثم خرج إلى الرقة، فنزلها واعتزل عليا ومعاوية ، ومات بها، وبالرقة قبره، وعقبه في ضيعة له، [ ص: 1557 ] وكان معاوية لا يرضاه، وهو الذي حرضه على قتال علي، فرب حريص محروم، وهو القائل لمعاوية يحرضه ويغريه بعلي:


                                                              فو الله ما هند بأمك إن مضى النهار     ولم يثأر بعثمان ثائر
                                                              أيقتل عبد القوم سيد أهله     ولم يقتلوه ليت أمك عاقر
                                                              وإنا متى نقتلهم لا يقد بهم     مقيد وقد دارت عليه الدوائر

                                                              وهو القائل أيضا:


                                                              ألا يا لليلي لا تغور نجومه     إذا غار نجم لاح نجم يراقبه
                                                              بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم     ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
                                                              بني هاشم لا تعجلونا فإنه     سواء علينا قاتلوه وسالبه
                                                              فإنا وإياكم وما كان بيننا     كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه
                                                              بني هاشم كيف التعاقد بيننا     وعند علي سيفه وحرائبه
                                                              لعمرك لا أنسى ابن أروى وقتله     وهل ينسين الماء ما عاش شاربه
                                                              هم قتلوه كي يكونوا مكانه     كما فعلت يوما بكسرى مرازبه

                                                              فأجابه الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب:


                                                              فلا تسألونا بالسلاح فإنه     أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه
                                                              وإني لمجتاب إليكم بجحفل     يصم السميع جرسه وجلائبه
                                                              وشبهته كسرى وما كان مثله     شبيها بكسرى هديه وضرائبه



                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية