الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              باب حسان

                                                              507 - حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري، الشاعر، يكنى أبا الوليد. وقيل: يكنى أبا عبد الرحمن ، وقيل: أبا الحسام، وأمه الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن كعب ابن ساعدة الأنصارية كان يقال له شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                              روينا عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان والله كما قال فيه شاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه :


                                                              متى يبد في الداجي البهيم جبينه يلح مثل مصباح الدجى المتوقد     فمن كان أو من قد يكون كأحمد
                                                              نظام لحق أو نكال لملحد



                                                              وروينا عن حديث عوف الأعرابي وجرير بن حازم عن محمد بن سيرين، ومن حديث السدي عن البراء، ومن حديث سماك بن حرب وأبي إسحاق - دخل حديث بعضهم في بعض: أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش : عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب، [ ص: 342 ] فقال قائل لعلي بن أبي طالب: اهج عنا القوم الذين يهجوننا. فقال: إن أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلت. فقالوا: يا رسول الله، ائذن له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عليا ليس عنده ما يراد في ذلك منه، أو: ليس في ذلك هنالك.

                                                              ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء .

                                                              وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. فقال له: إيت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك.
                                                              فكان يمضي إلى أبي بكر ليقف على أنسابهم، فكان يقول له: كف عن فلانة وفلانة، واذكر فلانة وفلانة، فجعل حسان يهجوهم. فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو: من شعر ابن أبي قحافة.

                                                              فمن شعر حسان في أبي سفيان بن الحارث:


                                                              وإن سنام المجد من آل هاشم     بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
                                                              [ ص: 343 ] ومن ولدت أبناء زهرة منهم     كرام ولم يقرب عجائزك المجد
                                                              ولست كعباس ولا كابن أمه     ولكن لئيم لا تقام له زند
                                                              وإن امرأ كانت سمية أمه     وسمراء - مغمور إذا بلغ الجهد
                                                              وأنت هجين نيط في آل هاشم     كما نيط خلف الراكب القدح الفرد



                                                              فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال: هذا كلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة.

                                                              قال أبو عمر: يعني بقوله بنت مخزوم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فيما ذكر أهل النسب، وهي أم أبي طالب، وعبد الله، والزبير، بني عبد المطلب. وقوله: ومن ولدت أبناء زهرة منهم، يعني حمزة وصفية، أمهما هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة والعباس، وابن أمه شقيقه ضرار بن عبد المطلب، أمهما نتيلة امرأة من النمر بن قاسط، وسمية أم أبي سفيان وسمراء أم أبيه.

                                                              ومن قول حسان أيضا في أبي سفيان:


                                                              هجوت محمدا فأجبت عنه     وعند الله في ذاك الجزاء
                                                              هجوت مطهرا برا حنيفا     أمين الله شيمته الوفاء
                                                              أتهجوه ولست له بكفء     فشركما لخيركما الفداء
                                                              [ ص: 344 ] فإن أبي ووالدتي وعرضي     لعرض محمد منكم وقاء



                                                              وهذا الشعر أوله:


                                                              عفت ذات الأصابع فالجواء     إلى عذراء منزلها خلاء



                                                              قال مصعب الزبيري: هذه القصيدة قال حسان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإسلام.

                                                              قال: وهجم حسان على فتية من قومه يشربون الخمر، فعيرهم في ذلك، فقالوا: يا أبا الوليد، ما أخذنا هذه إلا منك، وإنا لنهم بتركها ثم يثبطنا عن ذلك قولك:


                                                              ونشربها فتتركنا ملوكا     وأسدا ما ينهنهنا اللقاء



                                                              فقال: هذا شيء قلته في الجاهلية، والله ما شربتها منذ أسلمت.

                                                              قال ابن سيرين: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار : حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر، ويذكران مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذ أهون القول عليهم، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة [ ص: 345 ] .

                                                              وروينا من وجوه كثيرة عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لحسان: اهجهم - يعني المشركين - وروح القدس معك.  وإنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان: اللهم أيده بروح القدس لمناضلته عن المسلمين.

                                                              وقال صلى الله عليه وسلم: إن قوله فيهم أشد من وقع النبل. ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتنشد الشعر؟ أو قال: مثل هذا الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت عمر.

                                                              وروي عن عمر رضي الله أنه نهى أن ينشد الناس شيئا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش ، وقال: في ذلك شتم الحي والميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام.

                                                              وروى ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: فضل حسان على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في [أيام] النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.

                                                              قال أبو عبيدة: واجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدر أهل يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدر حسان بن ثابت   [ ص: 346 ] .

                                                              وقال أبو عبيدة: حسان بن ثابت شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر أهل اليمن في الإسلام، وهو شاعر أهل القرى.

                                                              وعن أبي عبيدة وأبي عمرو بن العلاء أنهما قالا: حسان بن ثابت أشعر أهل الحضر. وقال أحدهما: أهل المدر.

                                                              وقال الأصمعي : حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء، فقال له أبو حاتم : تأتي له أشعار لينة. فقال الأصمعي : تنسب إليه أشياء لا تصح عنه.

                                                              وروى ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان، هذا حسان فحل من فحول الشعراء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره.

                                                              وقال مرة أخرى: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر.

                                                              وقيل لحسان: لان شعرك أو هرم شعرك في الإسلام يا أبا الحسام. فقال للقائل: يا ابن أخي، إن الإسلام يحجز عن الكذب، أو يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، يعني إن شأن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحق، وذلك كله كذب.

                                                              وقال الحطيئة: أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول:

                                                              [ ص: 347 ]

                                                              يغشون حتى ما تهر كلابهم     لا يسألون عن السواد المقبل



                                                              وقال عبد الملك بن مروان: إن أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا.

                                                              وقال قوم في حسان: إنه كان ممن خاض في الإفك على عائشة رضي الله عنها، وإنه جلد في ذلك، وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك أو جلد فيه، ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنها برأته من ذلك ذكر الزبير بن بكار، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن هشام بن سليمان، عن ابن جريج، عن محمد بن السائب بن بركة، عن أمه، أنها كانت مع عائشة في الطواف، ومعها أم حكيم بنت خالد بن العاصي، وأم حكيم بنت عبد الله بن أبي ربيعة، فتذاكرتا حسان بن ثابت [فابتدرناه] بالسب، فقالت عائشة: ابن الفريعة تسبان؟ إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه، أليس القائل:


                                                              هجوت محمدا فأجبت عنه     وعند الله في ذاك الجزاء
                                                              فإن أبي ووالدتي وعرضي     لعرض محمد منكم وقاء



                                                              فبرأته من أن يكون افترى عليها، فقالتا: أليس ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم يقل شيئا، ولكنه الذي يقول:

                                                              [ ص: 348 ]

                                                              حصان رزان ما تزن بريبة     وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
                                                              فإن كان ما قد قيل عني قلته     فلا رفعت سوطي إلي أناملي



                                                              وقال أكثر أهل الأخبار والسير: إن حسانا كان من أجبن الناس، وذكروا من جبنه أشياء مستشنعة أوردوها عن الزبير أنه حكاها عنه، كرهت ذكرها لنكارتها.

                                                              ومن ذكرها قال: إن حسانا لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من مشاهده، لجبنه، وأنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كان حقا لهجي به.

                                                              وقيل: إنما أصابه ذلك الجبن منذ ضربه صفوان بن المعطل بالسيف.

                                                              وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسانا عوضا من ضربة صفوان الموضع الذي بالمدينة، وهو قصر بني جديلة، وأعطاه سيرين أمة قبطية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.

                                                              وقال أبو عمر رضي الله عنه: أما إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين أخت مارية لحسان فمروي من وجوه، وأكثرها أن ذلك ليس لضربة صفوان، بل لذبه بلسانه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين له، والله أعلم.

                                                              [ ص: 349 ] .

                                                              ومن جيد شعر حسان ما ارتجله بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في حين قدوم وفد بني تميم، إذا أتوه بخطيبهم وشاعرهم، ونادوه من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمد، فأنزل الله فيهم : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم الآية. وكانت حجراته صلى الله عليه وسلم تسعا، كلها من شعر مغلقة من خشب العرعر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وخطب خطيبهم مفتخرا، فلما سكت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يخطب بمعنى ما خطب به خطيبهم، فخطب ثابت بن قيس فأحسن، ثم قام شاعرهم، وهو الزبرقان بن بدر فقال:


                                                              نحن الملوك فلا حي يقاربنا     فينا العلاء وفينا تنصب البيع
                                                              ونحن نطعمهم في القحط ما أكلوا     من العبيط إذا لم يؤنس القزع
                                                              وننحر الكوم عبطا في أرومتنا     للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
                                                              تلك المكارم حزناها مقارعة     إذا الكرام على أمثالها اقترعوا



                                                              [ ص: 350 ] ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: قم، فقام وقال :


                                                              إن الذوائب من فهر وإخوتهم     قد بينوا سنة للناس تتبع
                                                              يرضى بها كل من كانت سريرته     تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
                                                              قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم     أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
                                                              سجية تلك منهم غير محدثة     إن الخلائق فاعلم شرها البدع
                                                              لو كان في الناس سباقون بعدهم     فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
                                                              لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم     عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
                                                              ولا يضنون عن جار بفضلهم     ولا يمسهم في مطمع طبع
                                                              أعفة ذكرت للناس عفتهم     لا يبخلون ولا يرديهم طمع
                                                              خذ منهم ما أتوا عفوا إذا عطفوا     ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
                                                              فإن في حربهم فاترك عداوتهم     شرا يخاض إليه الصاب والسلع
                                                              أكرم بقوم رسول الله شيعتهم     إذا تفرقت الأهواء والشيع



                                                              فقال التميميون عند ذلك: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا، وما انتصفنا ولا قاربنا.

                                                              [ ص: 351 ] وتوفي حسان بن ثابت رحمه الله قبل الأربعين في خلافة علي رضي الله عنه، وقيل: بل مات حسان سنة خمسين. [وهو ابن مائة وعشرين سنة]، وقيل إن حسان بن ثابت توفي سنة أربع وخمسين، ولم يختلفوا أنه عاش مائة وعشرين سنة، منها ستون في الجاهلية وستون في الإسلام، وأدرك النابغة الذبياني، وأنشده من شعره، وأنشد الأعشى وكلاهما قال له: إنك شاعر.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية