الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              808 - الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، يكنى أبا عبد الله. أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                              روى وكيع وغيره، عن هشام بن عروة، قال: أسلم الزبير وهو ابن خمس عشر سنة.  وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه مثله سواء إلى آخره [ ص: 511 ] .

                                                              وذكر السراج، عن أبي حاتم الرازي، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن طلحة التيمي، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه موسى بن طلحة، قال: كان علي، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، ولدوا في عام واحد، وروى قتيبة بن سعد، عن الليث بن سعد، عن أبي الأسود [محمد بن عبد الرحمن ] عن عروة، قال: أسلم الزبير وهو ابن اثنتي عشرة سنة.

                                                              وروى عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام أسلما، وهما ابنا ثماني سنين. وروى أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:

                                                              أسلم الزبير وهو ابن ست عشرة سنة. [وقول عروة أصح من قول أبي الأسود] والله أعلم.

                                                              قال أبو عمر: لم يتخلف الزبير عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود حين آخى بين المهاجرين بمكة. فلما قدم المدينة، وآخى بين المهاجرين والأنصار آخى بين الزبير وبين سلمة بن سلامة بن وقش، وكان له من الولد فيما ذكر بعضهم عشرة: عبد الله، وعروة، ومصعب، والمنذر، وعمر، وعبيدة، وجعفر، وعامر، وعمير، وحمزة.

                                                              وكان الزبير أول من سل سيفا في سبيل الله عز وجل، رواه حماد ابن سلمة، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب. قال سعيد: ودعا له [ ص: 512 ] النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ بخير، والله لا يضيع دعاءه. وقال الزبير ابن بكار: قال حدثني أبو حمزة بن عياض ، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أول رجل سل سيفه في سبيل الله الزبير، وذلك أنه نفحت نفحة من الشيطان أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه ، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مالك يا زبير؟ قال: أخبرت أنك أخذت، فصلى عليه، ودعا له، ولسيفه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي. وأنه صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبي حواري، وحواريي الزبير. وسمع ابن عمر رجلا يقول: أنا ابن الحواري. فقال له: إن كنت ابن الزبير، وإلا فلا.

                                                              وقال محمد بن سلام: سألت يونس بن حبيب عن قوله صلى الله عليه وسلم: حواريي الزبير. فقال: [من] خلصائه . وذكر علي بن المغيرة أبو الحسن الأثرم، عن الكلبي، عن أبيه محمد بن السائب، أنه كان يقول: الحواري الخليل، وذكر قول جرير:


                                                              أفبعد مقتلهم خليل محمد ترجو العيون مع الرسول سبيلا

                                                              وقال غيره: الحواري الناصر، وذكر قول الأعور الكلابي:


                                                              ولكنه ألقى زمام قلوصه     فيحيا كريما أو يموت حواريا

                                                              [ ص: 513 ] وقال غيره: الحواري الصاحب المستخلص. وقال معمر، عن قتادة: الحواريون كلهم من قريش، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة الجراح، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد ابن أبي وقاص، وطلحة، والزبير.

                                                              وقال روح بن القاسم، عن قتادة أنه ذكر يوما الحواريين فقيل له: وما الحواريون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة.

                                                              شهد الزبير بدرا، وكانت عليه يومئذ عمامة صفراء كان معتجرا بها، فيقال: إنها نزلت الملائكة يوم بدر على سيماء الزبير.

                                                              وروى أبو إسحاق الفزاري، عن هشام بن عروة، عن عباد بن حمزة ابن الزبير قال: كانت على الزبير عمامة صفراء معتجرا بها يوم بدر، ونزلت الملائكة عليها عمائم صفر.

                                                              وشهد الحديبية والمشاهد كلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يلج النار أحد شهد بدرا والحديبية. وقال عمر: في الستة أهل الشورى: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راض عنهم. وهو أيضا من العشرة، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. وثبت عن الزبير أنه قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم [أبويه] مرتين: يوم أحد، ويوم قريظة، فقال: ارم فداك أبي وأمي [ ص: 514 ] .

                                                              حدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن عبد السلام، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق السبيعي قال: سألت مجلسا فيه أكثر من عشرين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان أكرم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: الزبير، وعلي ابن أبي طالب.

                                                              قال أبو عمر: كان الزبير تاجرا مجدودا في التجارة، وقيل له يوما:

                                                              بم أدركت في التجارة ما أدركت؟ فقال: إني لم أشتر عينا ، ولم أرد ربحا، والله يبارك لمن يشاء.

                                                              وروى الأوزاعي، عن نهيك بن يريم، عن مغيث بن سمي، عن كعب، قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل بيته منها درهما واحدا، يعني أنه يتصدق بذلك كله، وفضله حسان على جميعهم، كما فضل أبو هريرة على الصحابة أجمعين جعفر بن أبي طالب، فقال يمدحه :


                                                              أقام على عهد النبي وهديه     حواريه والقول بالفعل يعدل
                                                              أقام على منهاجه وطريقه     يوالي ولي الحق والحق أعدل
                                                              هو الفارس المشهور والبطل الذي     يصول إذا ما كان يوم محجل
                                                              وإن امرأ كانت صفية أمه     ومن أسد في بيته لمرفل

                                                              [ ص: 515 ]

                                                              له من رسول الله قربى قريبة     ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل
                                                              فكم كربة ذب الزبير بسيفه     عن المصطفى، والله يعطى ويجزل
                                                              إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها     بأبيض سباق إلى الموت يرقل
                                                              فما مثله فيهم ولا كان قبله     وليس يكون الدهر ما دام يذبل

                                                              ثم شهد الزبير الجمل، فقاتل فيه ساعة، فناداه علي وانفرد به، فذكر الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له، وقد وجدهما يضحكان بعضهما إلى بعض: أما إنك ستقاتل عليا، وأنت له ظالم. فذكر الزبير ذلك، فانصرف عن القتال فاتبعه ابن جرموز عبد الله، ويقال عمير، ويقال عمرو، وقيل عميرة بن جرموز السعدي، فقتله بموضع يعرف بوادي السباع، وجاء بسيفه إلى علي، فقال له علي: بشر قاتل ابن صفية بالنار. وكان الزبير قد انصرف عن القتال نادما مفارقا للجماعة التي خرج فيها، منصرفا إلى المدينة، فرآه ابن جرموز، فقال: أتى يؤرش بين الناس، ثم تركهم، والله لا أتركه، ثم اتبعه، فلما لحق بالزبير، ورأى الزبير أنه يريده أقبل عليه، فقال له ابن جرموز: أذكرك الله. فكف عنه الزبير حتى فعل ذلك مرارا، فقال الزبير: قاتله الله، يذكرنا الله وينساه، ثم غافصه ابن جرموز فقتله. وذلك يوم الخميس لعشر خلون من جمادى [ ص: 516 ] الأولى سنة ست وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، ولما أتى قاتل الزبير عليا برأسه يستأذن عليه فلم يأذن له، وقال للآذن: بشره بالنار، فقال:


                                                              أتيت عليا برأس الزبير     أرجو لديه به الزلفه
                                                              فبشر بالنار إذ جئته     فبئس البشارة والتحفه
                                                              وسيان عندي قتل الزبير     وضرطة عير بذي الجحفه

                                                              وفي حديث عمرو بن جاوان، عن الأحنف قال: لما بلغ الزبير سفوان موضعا من البصرة، كمكان القادسية من الكوفة، لقيه البكر رجل من بني مجاشع، فقال: أين تذهب يا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إلي فأنت في ذمتي لا يوصل إليك، فأقبل معه وأتى إنسان الأحنف بن قيس فقال: هذا الزبير قد لقي بسفوان. فقال الأحنف: ما شاء الله، كان قد جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف، ثم يلحق ببنيه وأهله، فسمعه عميرة بن جرموز، وفضالة بن حابس، ونفيع في غواة بني تميم، فركبوا في طلبه، فلقوه مع النفر، فأتاه عمير بن جرموز من خلف، وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنة خفيفة، وحمل عليه الزبير وهو على فرس له يقال له ذو الخمار، حتى إذا ظن أنه قاتله نادى صاحبيه يا نفيع! يا فضالة! فحملوا عليه حتى قتلوه، وهذا أصح مما تقدم والله أعلم.

                                                              وكانت سن الزبير يوم قتل - رحمه الله - سبعا وستين سنة. وقيل ستا وستين، وكان الزبير أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية رضي الله عنه [ ص: 517 ] .

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية