ولم يقل "زينت" وذلك جائز، وإنما ذكر الفعل والاسم مؤنث؛ لأنه مشتق من فعل في مذهب مصدر. فمن أنث أخرج الكلام على اللفظ، ومن ذكر ذهب إلى تذكير المصدر. ومثله فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى و قد جاءكم بصائر من ربكم ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة على ما فسرت لك.
فأما في الأسماء الموضوعة فلا تكاد العرب تذكر فعل مؤنث إلا في الشعر لضرورته. [ ص: 126 ] .
وقد يكون الاسم غير مخلوق من فعل، ويكون فيه معنى تأنيث وهو مذكر فيجوز فيه تأنيث الفعل وتذكيره على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، من ذلك قوله عز وجل وكذب به قومك وهو الحق ولم يقل "كذبت" ولو قيلت لكان صوابا كما قال كذبت قوم نوح و كذبت قوم لوط ذهب إلى تأنيث الأمة، ومثله من الكلام في الشعر كثير، منه قول الشاعر:
فإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر
وكان ينبغي أن يقول: عشرة أبطن؛ لأن البطن ذكر، ولكنه في هذا الموضع في معنى قبيلة، فأنث لتأنيث القبيلة في المعنى. وكذلك قول الآخر:
وقائع في مضر تسعة وفي وائل كانت العاشره
فقال: تسعة، وكان ينبغي له أن يقول: تسع؛ لأن الوقعة أنثى، ولكنه ذهب إلى الأيام؛ لأن العرب تقول في معنى الوقائع: الأيام فيقال هو عالم بأيام العرب، يريد وقائعها. فأما قول الله تبارك وتعالى: وجمع الشمس والقمر فإنه أريد به -والله أعلم-: جمع الضياءان. وليس قولهم: إنما ذكر فعل الشمس؛ لأن الوقوف لا يحسن في الشمس حتى يكون معها القمر بشيء، ولو كان هذا على ما قيل لقالوا: الشمس جمع والقمر. ومثل هذا غير جائز، وإن شئت ذكرته [ ص: 127 ] ؛ لأن الشمس اسم مؤنث ليس فيها هاء تدل على التأنيث، والعرب ربما ذكرت فعل المؤنث إذا سقطت منه علامات التأنيث. قال : أنشدني بعضهم: الفراء
فهي أحوى من الربعي خاذلة والعين بالإثمد الحاري مكحول
ولم يقل: مكحولة والعين أنثى للعلة التي أنبأتك بها. قال: وأنشدني بعضهم:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
قال: وأنشدني يونس -يعني النحوي البصري- عن العرب قول الأعشى:
إلى رجل منهم أسيف كأنما يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
وأما قوله: السماء منفطر به فإن شئت جعلت السماء مؤنثة بمنزلة العين، فلما لم يكن فيها هاء مما يدل على التأنيث ذكر فعلها كما فعل بالعين والأرض في البيتين. [ ص: 128 ] .
ومن العرب من يذكر السماء؛ لأنه جمع كأن واحدته سماوة أو سماءة. قال: وأنشدني بعضهم:
فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب
فإن قال قائل: أرأيت الفعل إذا جاء بعد المصادر المؤنثة أيجوز تذكيره بعد الأسماء كما جاز قبلها؟ قلت: ذلك قبيح وهو جائز. وإنما قبح؛ لأن الفعل إذا أتى بعد الاسم كان فيه مكني من الاسم فاستقبحوا أن يضمروا مذكرا قبله مؤنث، والذين استجازوا ذلك قالوا: يذهب به إلى المعنى، وهو في التقديم والتأخير سواء قال الشاعر:
فإن تعهدي لامرئ لمة فإن الحوادث أزرى بها
ولم يقل: أزرين بها ولا أزرت بها. والحوادث جمع ولكنه ذهب بها إلى معنى الحدثان. وكذلك قال الآخر:
هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي بناقة سعد والعشية بارد
كأن العشية في معنى العشي، ألا ترى قول الله أن سبحوا بكرة وعشيا وقال الآخر:
إن السماحة والشجاعة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح
[ ص: 129 ] ولم يقل: ضمنتا، والسماحة والشجاعة مؤنثتان للهاء التي فيهما. قال: فهل يجوز أن تذهب بالحدثان إلى الحوادث فتؤنث فعله قبله فتقول أهلكتنا الحدثان؟ قلت نعم أنشدني : الكسائي
ألا هلك الشهاب المستنير ومدرهنا الكمي إذا نغير
وحمال المئين إذا ألمت بنا الحدثان والأنف النصور
فهذا كاف مما يحتاج إليه من هذا النوع.
وأما قوله: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ولم يقل "بطونها" والأنعام هي مؤنثة؛ لأنه ذهب به إلى النعم، والنعم ذكر. وإنما جاز أن تذهب به إلى واحدها؛ لأن الواحد يأتي في المعنى على معنى الجمع كما قال الشاعر:
إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخرات والكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد
ألا ترى أن اللبن جمع يكفي من الألبان. وقد كان يذهب بتذكير الأنعام إلى مثل قول الشاعر: الكسائي
ولا تذهبن عيناك في كل شرمح طوال فإن الأقصرين أمازره
[ ص: 130 ] ولم يقل: أمازرهم، فذكر وهو يريد أمازر ما ذكرنا. ولو كان كذلك لجاز أن تقول هو أحسنكم وأجمله، ولكنه ذهب إلى أن هذا الجنس يظهر مع نكرة غير مؤقتة يضمر فيها مثل معنى النكرة؛ فلذلك قالت العرب: هو أحسن الرجلين وأجمله؛ لأن ضمير الواحد يصلح في معنى الكلام أن تقول هو أحسن رجل في الاثنين، وكذلك قولك هي أحسن النساء وأجمله. من قال: وأجمله قال: أجمل شيء في النساء، ومن قال: وأجملهن أخرجه على اللفظ، واحتج بقول الشاعر:
مثل الفراخ نتقت حواصله
ولم يقل حواصلها، وإنما ذكر؛ لأن الفراخ جمع لم يبن على واحده، فجاز أن يذهب بالجمع إلى الواحد. قال : أنشدني الفراء : المفضل
ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنازح
فقال: رائح ولم يقل رائحون؛ لأن الجيران قد خرج مخرج الواحد من الجمع؛ إذ لم يبن جمعه على واحده.
فلو قلت: الصالحون فإن ذلك لم يجز؛ لأن الجمع منه قد بني على صورة واحدة. وكذلك الصالحات نقول، ذاك غير جائز؛ لأن صورة الواحدة في الجمع قد ذهب عنه توهم الواحدة. ألا ترى أن العرب تقول: عندي عشرون صالحون فيرفعون، ويقولون: عندي عشرون جيادا فينصبون الجياد؛ لأنها لم تبن على واحدها، فذهب بها إلى الواحد ولم يفعل ذلك بالصالحين، قال عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
[ ص: 131 ] فقال: سودا ولم يقل: سود وهي من نعت الاثنتين والأربعين للعلة التي أخبرتك بها. وقد قرأ بعض القراء زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويقال إنه فقط. مجاهد