الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله  

                                                                                                                                                                                                                                      (نقاتل) مجزومة لا يجوز رفعها فإن قرئت بالياء "يقاتل" جاز رفعها وجزمها. فأما الجزم فعلى المجازاة بالأمر، وأما الرفع فأن تجعل (يقاتل) صلة للملك كأنك قلت: ابعث لنا الذي يقاتل.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا رأيت بعد الأمر اسما نكرة بعده فعل يرجع بذكره أو يصلح في ذلك الفعل إضمار الاسم، جاز فيه الرفع والجزم تقول في الكلام: علمني علما أنتفع به، كأنك قلت: علمني الذي أنتفع به، وإن جزمت (أنتفع) على أن تجعلها شرطا للأمر وكأنك لم تذكر العلم جاز ذلك. فإن ألقيت "به" لم يكن إلا جزما؛ لأن الضمير لا يجوز في (أنتفع) ، ألا ترى أنك لا تقول: علمني علما أنتفعه. فإن قلت: فهلا رفعت وأنت تريد إضمار (به) ؟

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: لا يجوز إضمار حرفين؛ فلذلك لم يجز في قوله (نقاتل) إلا الجزم. ومثله اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم لا يجوز إلا الجزم؛ لأن يخل لم يعد بذكر الأرض. ولو كان "أرضا تخل لكم" جاز الرفع والجزم، كما قال: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وكما قال الله تبارك وتعالى: [ ص: 158 ] خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ولو كان جزما كان صوابا؛ لأن في قراءة عبد الله: (أنزل علينا مائدة من السماء تكن لنا عيدا) وفي قراءتنا بالواو "تكون".

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه ما يكون الجزم فيه أحسن وذلك بأن يكون الفعل الذي قد يجزم ويرفع في آية، والاسم الذي يكون الفعل صلة له في الآية التي قبله، فيحسن الجزم لانقطاع الاسم من صلته من ذلك: فهب لي من لدنك وليا يرثني جزمه يحيى بن وثاب والأعمش - ورفعه حمزة "يرثني" لهذه العلة، وبعض القراء رفعه أيضا- لما كانت (وليا) رأس آية انقطع منها قوله (يرثني) ، فحسن الجزم. ومن ذلك قوله: وابعث في المدائن حاشرين يأتوك على الجزم. ولو كانت رفعا على صلة "الحاشرين" قلت: يأتونك.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا كان الاسم الذي بعده فعل معرفة يرجع بذكره، مما جاز في نكرته وجهان جزمت فقلت: ابعث إلى أخاك يصب خيرا، لم يكن إلا جزما؛ لأن الأخ معرفة والمعرفة لا توصل. ومنه قوله: أرسله معنا غدا يرتع ويلعب الهاء معرفة و غدا معرفة فليس فيه إلا الجزم، ومثل قوله: قاتلوهم يعذبهم الله جزم لا غير.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا نوع إذا كان بعد معرفته فعل لها جاز فيه الرفع والجزم مثل قوله: فذروها تأكل في أرض الله وقوله: ذرهم يأكلوا ولو كان رفعا لكان صوابا كما قال تبارك وتعالى: ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ولم يقل: يلعبوا. فأما رفعه فأن تجعل يلعبون في موضع نصب كأنك قلت في الكلام: ذرهم [ ص: 159 ] لاعبين. وكذلك دعهم وخلهم واتركهم. وكل فعل صلح أن يقع على اسم معرفة وعلى فعله ففيه هذان الوجهان، والجزم فيه وجه الكلام؛ لأن الشرط يحسن فيه، ولأن الأمر فيه سهل، ألا ترى أنك تقول: قل له فليقم معك.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن رأيت الفعل الثاني يحسن فيه محنة الأمر ففيه الوجهان بمذهب كالواحد، وفي إحدى القراءتين: (ذرهم يأكلون ويتمتعون ويلهيهم الأمل) .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه وجه آخر يحسن في الفعل الأول. من ذلك: أوصه يأت زيدا، أو مره، أو أرسل إليه. فهذا يذهب إلى مذهب القول، ويكون جزمه على شبيه بأمر ينوى له مجددا. وإنما يجزم على أنه شرط لأوله. من ذلك قولك: مر عبد الله يذهب معنا، ألا ترى أن القول يصلح أن يوضع في موضع (مر) ، وقال الله تبارك وتعالى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله

                                                                                                                                                                                                                                      فـ يغفروا في موضع جزم، والتأويل -والله أعلم-: قل للذين آمنوا اغفروا، على أنه شرط للأمر فيه تأويل الحكاية. ومثله: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن فتجزمه بالشرط قل ، وقال قوم: بنية الأمر في هذه الحروف: من القول والأمر والوصية. قيل لهم: إن كان جزم على الحكاية فينبغي لكم أن تقولوا للرجل في وجهه: قلت لك تقم، وينبغي أن تقول: أمرتك تذهب معنا، فهذا دليل على أنه شرط للأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت: فقد قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فلا تستطل مني بقائي ومدتي ولكن يكن للخير فيك نصيب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 160 ] قلت: هذا مجزوم بنية الأمر؛ لأن أول الكلام نهي، وقوله (ولكن) نسق وليست بجواب، فأراد: ولكن ليكن للخير فيك نصيب. ومثله قول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      من كان لا يزعم أني شاعر     فيدن مني تنهه المزاجر



                                                                                                                                                                                                                                      فجعل الفاء جوابا للجزاء، وضمن (فيدن) لاما يجزم [بها] . وقال الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      فقلت ادعي وأدع فإن أندى     لصوت أن ينادي داعيان



                                                                                                                                                                                                                                      أراد: ولأدع. وفي قوله (وادع) طرف من الجزاء وإن كان أمرا قد نسق أوله على آخره. وهو مثل قول الله عز وجل: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم والله أعلم. وأما قوله: ذروني أقتل موسى وليدع ربه فليس تأويل جزاء، إنما هو أمر محض؛ لأن إلقاء الواو ورده إلى الجزاء (لا يحسن فليس إلى الجزاء) ، ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول: ذروني أقتله يدع كما حسن "اتبعوا سبيلنا تحمل خطاياكم".

                                                                                                                                                                                                                                      والعرب لا تجازي بالنهي كما تجازي بالأمر؛ وذلك أن النهي يأتي بالجحد، ولم تجاز العرب بشيء من الجحود. وإنما يجيبونه بالفاء. وألحقوا النهي إذا كان بلا، بليس وما وأخواتهن من الجحود. فإذا رأيت نهيا بعد اسمه فعل فارفع ذلك الفعل. فتقول: لا تدعنه يضربه، ولا تتركه يضربك. جعلوه رفعا إذ لم يكن آخره يشاكل أوله إذ كان في أوله جحد وليس في آخره جحد. فلو قلت: لا تدعه لا يؤذك جاز الجزم والرفع إذ كان أوله كآخره كما تقول في الأمر: دعه ينام، ودعه ينم إذ كان لا جحد فيهما. فإذا أمرت ثم جعلت في الفعل (لا) رفعت لاختلافهما [ ص: 161 ] أيضا، فقلت: ايتنا لا نسيء إليك كقول الله تبارك وتعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا [لما كان] أول الكلام أمرا وآخره نهيا فيه (لا) فاختلفا، جعلت (لا) على معنى ليس فرفعت. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وقوله: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم رفع، ومنه قوله: فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه ترفع، ولو نويت الجزاء لجاز في قياس النحو. وقد قرأ يحيى بن وثاب وحمزة : "فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف دركا ولا تخشى" بالجزاء المحض.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت: فكيف أثبتت الياء في (تخشى) ؟ قلت: في ذلك ثلاثة أوجه: إن شئت استأنفت ولا تخشى بعد الجزم، وإن شئت جعلت (تخشى) في موضع جزم وإن كانت فيها الياء؛ لأن من العرب من يفعل ذلك قال بعض بني عبس :


                                                                                                                                                                                                                                      ألم يأتيك والأنباء تنمي     بما لاقت لبون بني زياد



                                                                                                                                                                                                                                      فأثبتت الياء في (يأتيك) وهي في موضع جزم؛ لأنه رآها ساكنة، فتركها على سكونها كما تفعل بسائر الحروف. وأنشدني بعض بني حنيفة:


                                                                                                                                                                                                                                      قال لها من تحتها وما استوى     هزي إليك الجذع يجنيك الجنى



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 162 ] وكان ينبغي أن تقول: يجنك. وأنشدني بعضهم في الواو:


                                                                                                                                                                                                                                      هجوت زبان ثم جئت معتذرا     من سب زبان لم تهجو ولم تدع



                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثالث أن يكون الياء صلة لفتحة الشين كما قال امرؤ القيس :

                                                                                                                                                                                                                                      ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي



                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الياء ليست بلام الفعل، هي صلة لكسرة اللام كما توصل القوافي بإعراب رويها مثل قول الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      أمن أم أوفى دمنة لم تكلمي



                                                                                                                                                                                                                                      وقد يكون جزم الثاني إذا كانت فيه (لا) على نية النهي وفيه معنى من الجزاء كما كان في قوله ولنحمل خطاياكم طرف من الجزاء وهو أمر. فمن ذلك قول الله تبارك وتعالى: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده المعنى والله أعلم: إن لا تدخلن حطمتن، وهو نهي محض؛ لأنه لو كان جزاء لم تدخله النون الشديدة ولا الخفيفة، ألا ترى أنك لا تقول: إن تضربني أضربنك إلا في ضرورة شعر كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      فمهما تشأ منه فزارة تعطكم     ومهما تشأ منه فزارة تمنعا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 163 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية