يعني النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، والمشركين يوم بدر .
فئة تقاتل قرئت بالرفع وهو وجه الكلام على معنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة على الاستئناف، كما قال الشاعر :
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ولو خفضت لكان جيدا: ترده على الخفض الأول كأنك قلت: كذي رجلين: كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك يجوز خفض الفئة والأخرى على أول الكلام. ولو قلت: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة كان صوابا على قولك: التقتا مختلفتين. وقال الشاعر في مثل ذلك مما يستأنف:
إذا مت كان الناس نصفين شامت وآخر مثن بالذي كنت أفعل
[ ص: 193 ] ابتدأ الكلام بعد النصفين ففسره. وأراد: بعض شامت وبعض غير شامت.
والنصب فيهما جائز، يردهما على النصفين. وقال الآخر:
حتى إذا ما استقل النجم في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود
ففسر بعض البقل كذا، وبعضه كذا. والنصب جائز.
وكل فعل أوقعته على أسماء لها أفاعيل ينصب على الحال الذي ليس بشرط ففيه الرفع على الابتداء، والنصب على الاتصال بما قبله من ذلك: رأيت القوم قائما وقاعدا، وقائم وقاعد؛ لأنك نويت بالنصب القطع، والاستئناف في القطع حسن.
وهو أيضا فيما ينصب بالفعل جائز فتقول: أظن القوم قياما وقعودا، وقيام وقعود، وكان القوم بتلك المنزلة. وكذلك رأيت القوم في الدار قياما وقعودا، وقيام وقعود، وقائما وقاعدا، وقائم وقاعد فتفسره بالواحد والجمع، قال الشاعر:
وكتيبة شعواء ذات أشلة فيها الفوارس حاسر ومقنع
فإذا نصبت على الحال لم يجز أن تفسر الجمع بالاثنين، ولكن تجمع فتقول: فيها القوم قياما وقعودا.
[ ص: 194 ]
وأما الذي على الشرط مما لا يجوز رفعه فقوله: اضرب أخاك ظالما أو مسيئا، تريد: اضربه في ظلمه وفي إساءته. ولا يجوز هاهنا الرفع في حاليه؛ لأنهما متعلقتان بالشرط. وكذلك الجمع تقول: ضربت القوم مجردين أو لابسين، ولا يجوز: مجردون ولا لابسون إلا أن تستأنف فتخبر، وليس بشرط للفعل ألا ترى أنك لو أمرت بضربهم في هاتين الحالين لم يكن فعلهم إلا نصبا فتقول: اضرب القوم مجردين أو لابسين؛ لأن الشرط في الأمر لازم. وفيما قد مضى يجوز أن تجعله خبرا وشرطا؛ فلذلك جاز الوجهان في الماضي.
وقوله: يرونهم مثليهم زعم بعض من روى عن أنه قال: رأى المسلمون المشركين في الحزر ستمائة وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، فهذا وجه. وروي قول آخر كأنه أشبه بالصواب: أن المسلمين رأوا المشركين على تسعمائة وخمسين والمسلمون قليل ثلاثمائة وأربعة عشر، فلذلك قال: ابن عباس قد كان لكم يعني اليهود آية في قلة المسلمين وكثرة المشركين.
فإن قلت: فكيف جاز أن يقال مثليهم يريد ثلاثة أمثالهم؟ قلت: كما تقول وعندك عبد: أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، وتقول: أحتاج إلى مثلي عبدي، فأنت إلى ثلاثة محتاج. ويقول الرجل: معي ألف وأحتاج إلى مثليه، فهو يحتاج إلى ثلاثة. فلما نوى أن يكون الألف داخلا في معنى المثل صار المثل اثنين والمثلان ثلاثة. ومثله في الكلام أن تقول: أراكم مثلكم، كأنك قلت: أراكم ضعفكم، وأراكم مثليكم يريد ضعفيكم، فهذا على معنى الثلاثة.
[ ص: 195 ] .
فإن قلت: فقد قال في سورة الأنفال: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم فكيف كان هذا هاهنا تقليلا، وفي الآية الأولى تكثيرا؟
قلت: هذه آية المسلمين أخبرهم بها، وتلك الآية لأهل الكفر. مع أنك تقول في الكلام: إني لأرى كثيركم قليلا، أي: قد هون علي، لا أني أرى الثلاثة اثنين.
ومن قرأ (ترونهم) ذهب إلى اليهود؛ لأنه خاطبهم، ومن قال يرونهم فعلى ذلك كما قال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم وإن شئت جعلت (يرونهم) للمسلمين دون اليهود.