لم أفعل، ولا أفعل، فكانه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إذا ظهر أو أتى الفعل محتملا لضميره لم تجز دخول إلا كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر:
وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما
وقال الآخر:
إيادا وأنمارها الغالبين إلا صدودا وإلا ازورارا
أراد: غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا، وقال الآخر:
واعتل إلا كل فرع معرق مثلك لا يعرف بالتلهوق
وقوله: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ولم يقل: ينفقونهما. فإن شئت وجهت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه كما قال:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها فجعله للتجارة، وقوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا
فجعله- والله أعلم- للإثم، وقال الشاعر في مثل ذلك:
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف
ولم يقل: راضون، وقال الآخر:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى وكان وكنت غير غدور
ولم يقل: غدورين، وذلك لاتفاق المعنى يكتفى بذكر الواحد. وقوله: والله ورسوله أحق أن يرضوه إن شئت جعلته من ذلك: مما اكتفي ببعضه من بعض، وإن شئت جعلت الله تبارك وتعالى في هذا الموضع ذكر لتعظيمه، والمعنى للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ألا ترى أنك قد تقول لعبدك : قد أعتقك الله وأعتقتك، فبدأت بالله تبارك وتعالى تفويضا إليه وتعظيما له، وإنما يقصد قصد نفسه [ ص: 435 ] .
وقوله: منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم جاء التفسير: في الاثني عشر. وجاء (فيهن) : في الأشهر الحرم وهو أشبه بالصواب- والله أعلم- ليتبين بالنهي فيها عظم حرمتها كما قال: حافظوا على الصلوات ثم قال: والصلاة الوسطى فعظمت، ولم يرخص في غيرها بترك المحافظة. ويدلك على أنه للأربعة- والله أعلم- قوله: (فيهن) ولم يقل (فيها) . وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: لثلاث ليال خلون، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة، فإذا جزت العشرة قالوا: خلت، ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هن) و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هي، وهذه) إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. ويجوز في كل واحد ما جاز في صاحبه أنشدني أبو القمقام الفقعسي:
أصبحن في قرح وفي داراتها سبع ليال غير معلوفاتها
ولم يقل: معلوفاتهن وهي سبع، وكل ذلك صواب، إلا أن المؤثر ما فسرت لك.
ومثله: وقال نسوة في المدينة فذكر الفعل لقلة النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم ولم يقل: انسلخت، وكل صواب. وقال الله تبارك وتعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك لقلتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا [ ص: 436 ] .