الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ولقد علموا لمن اشتراه  

                                                                                                                                                                                                                                      "من" في موضع رفع وهي جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام صيروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم، ألا ترى أنهم يقولون: سل عما شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" في تأويل جزاء [ ص: 66 ] وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى فعل؛ لأن الحزم لا يستبين في فعل، فصيروا حدوث اللام- وإن كانت لا تعرب شيئا- كالذي يعرب، ثم صيروا جواب الجزاء بما تلقى به اليمين -يريد تستقبل به- إما بلام، وإما بـ "لا"، وإما بـ"إن" وإما بـ "ما" فتقول في "ما" : لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع، وفي "إن" : لئن أتيتني إن ذلك لمشكور لك- قال الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن - وفي "لا" : لئن أخرجوا لا يخرجون معهم وفى اللام ولئن نصروهم ليولن الأدبار وإنما صيروا جواب الجزاء كجواب اليمين؛ لأن اللام التي دخلت في قوله: ولقد علموا لمن اشتراه وفي قوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة وفي قوله: لئن أخرجوا إنما هي لام اليمين كان موضعها في آخر الكلام فلما صارت في أوله صارت كاليمين، فلقيت بما يلقى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ليعلم ربي أن بيتي واسع



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 67 ] وأنشدني بعض بني عقيل :


                                                                                                                                                                                                                                      لئن كان ما حدثته اليوم صادقا     أصم في نهار القيظ للشمس باديا
                                                                                                                                                                                                                                      وأركب حمارا بين سرج وفروة     وأعر من الخاتام صغرى شماليا



                                                                                                                                                                                                                                      فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه في الكلام أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      فلا يدعني قومي صريحا لحرة     لئن كنت مقتولا ويسلم عامر



                                                                                                                                                                                                                                      فاللام في "لئن" ملغاة، ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة "إن"، ألا ترى أن الشاعر قد قال:


                                                                                                                                                                                                                                      فلئن قوم أصابوا غرة     وأصبنا من زمان رققا
                                                                                                                                                                                                                                      للقد كانوا لدى أزماننا     لصنيعين لبأس وتقى



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 68 ] فأدخل على "لقد" لاما أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام في "لقد" حتى صارت كأنها منها. وأنشدني بعض بني أسد :


                                                                                                                                                                                                                                      لددتهم النصيحة كل لد     فمجوا النصح ثم ثنوا فقاءوا
                                                                                                                                                                                                                                      فلا والله لا يلفى لما بي     ولا للما بهم أبدا دواء



                                                                                                                                                                                                                                      ومثله قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      كما ما امرؤ في معشر غير رهطه     ضعيف الكلام شخصه متضائل



                                                                                                                                                                                                                                      قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" في الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى :


                                                                                                                                                                                                                                      لئن منيت بنا عن غب معركة     لا تلفنا من دماء القوم ننتفل



                                                                                                                                                                                                                                      فجزم "لا تلفنا" والوجه الرفع كما قال الله: لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولكنه لما جاء بعد حرف ينوى به الجزم صير جزما جوابا للمجزوم وهو في معنى رفع. وأنشدني القاسم بن معن (عن العرب) :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 69 ]

                                                                                                                                                                                                                                      حلفت له إن تدلج الليل لا يزل     أمامك بيت من بيوتي سائر



                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: حلفت له لا يزال أمامك بيت، فلما جاء بعد المجزوم صير جوابا للجزم. ومثله في العربية: آتيك كي (إن تحدثني بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم) .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية