الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يرويه الأعمش، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب أنه قال: "زينوا القرآن بأصواتكم".  

[ ص: 356 ]

أخبرناه ابن داسة، نا أبو داود، نا عثمان بن أبي شيبة، نا جرير، عن الأعمش.

قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم"  المعنى: زينوا أصواتكم بالقرآن، فقدم الأصوات على مذهبهم في قلب الكلام، وهو كثير في كلامهم.

يقال: عرضت الناقة على الحوض أي: عرضت الحوض على الناقة، وإذا طلعت الشعرى واستوى العود على الحرباء أي: استوى الحرباء على العود، قال الشاعر :


وتركب خيل لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر



وإنما هو تشقى الضياطرة بالرماح.

وقال الفرزدق:


غداة أحلت لابن أصرم طعنة     حصين عبيطات السدائف والخمر



روى الأثرم، عن أبي عبيدة أنه حضر يونس والكسائي، فألقاه يونس على الكسائي، فرفع الكسائي الطعنة، ونصب العبيطات ورفع الخمر، فقال: يونس للكسائي: لم رفعت الخمر؟ فقال: أردت وحلت له الخمر، فقال يونس: ما أحسن ما قلت، ولكن سمعت الفرزدق ينشده فنصب الطعنة، [ ص: 357 ] ورفع العبيطات والخمر، جعل الفاعل مفعولا، والمفعول فاعلا كقول الآخر:


كانت عقوبة ما فعلت كما     كان الزناء عقوبة الرجم



وإنما هو كما كان الرجم عقوبة الزنى.

وإنما تأولنا الحديث على هذا المعنى لأنه لا يجوز على القرآن، وهو كلام الخالق، أن يزينه صوت مخلوق، بل هو بالتزيين لغيره والتحسين له أولى.

وقد توقى هذه الرواية قوم؛ لأن فيه إثبات مذهب من يقول: باللفظ.

وأخبرنا ابن الأعرابي، نا عباس الدوري، نا يحيى بن معين، نا أبو قطن، عن شعبة قال: نهاني أيوب أن أحدث: "زينوا القرآن بأصواتكم"،  ورواه معمر، عن منصور، عن طلحة، فقدم الأصوات على القرآن.

أخبرناه محمد بن هاشم، نا الدبري، عن عبد الرزاق، أنا معمر، عن منصور، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "زينوا أصواتكم بالقرآن".

وهكذا رواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة بتقديم الأصوات على القرآن. والمعنى أشغلوا أصواتكم بالقرآن والهجوا بقراءته، واتخذوه زينة وشعارا، ولم يرد تطريب الصوت به، والتحزين له؛ إذ ليس [ ص: 358 ] هذا في وسع كل أحد، فلعل من الناس من إذا أراد التزيين له أفضى به إلى التهجين، وإنما المعنى في ذلك ما ذكرناه لقوله: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"،  إنما هو أن يلهج بتلاوته، كما يلهج الناس بالغناء والطرب عليه، وإلى هذا المعنى ذهب ابن الأعرابي صاحبنا.

أخبرني إبراهيم بن فراس، قال: سألت ابن الأعرابي عن هذا، فقال: إن العرب كانت تتغنى بالركباني، وهو النشيد بالتمطيط والمد، إذا ركبت الإبل، وإذا تبطحت على الأرض، وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون القرآن هجيراهم مكان التغني بالركباني.

التالي السابق


الخدمات العلمية