الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه: أنه قال لامرأة رفاعة القرظي: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". قالت: فإنه يا رسول الله قد جاءني هبة.

[ ص: 546 ] حدثناه الأصم، نا ابن عبد الحكم، أنا ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال ابن عبد الحكم: هبة تريد مرة.

قال أبو سليمان : للهبة هاهنا معنيان؛ أحدهما أن تكون بمعنى الوقعة، يقال: إنه لذو هبة إذا كانت له وقعة شديدة، ومنه يقال: احذر هبة السيف أي وقعته، فالمعنى على هذا أنه قد أتاها وقعة واحدة، وهو معنى تفسير ابن وهب.

والوجه الآخر أن تكون الهبة بمعنى الحقبة من الدهر. قال أبو زيد: يقال غنينا بذلك هبة من الدهر، والدهر هبات وسبات: أي عصر بعد عصر، وكان بعضهم يتأوله على غير هذا وذاك، ويراه من هباب الجمل، أو هبيب التيس إذا اهتاج للسفاد، والأول أجود وأشبه.

وفي الحديث من الفقه أنه إذا طلقها قبل أن يواقعها لم تحل للزوج الأول. والعسيلة تصغير العسل، وهي كناية عن اللذة.  قال ابن المنذر: وفيه كالدلالة على أن الزوج إذا أتاها وهي نائمة لا تشعر، أو مغمى عليها لا تحس باللذة، لم تحل للزوج الأول.

وفي هذا الحديث أنها قالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وأنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها.

وفي هذا دليل على أن لامرأة العنين المطالبة بحقها،  وأن لها أن تدعو إلى [ ص: 547 ] فسخ النكاح، وذلك أنها إنما ادعت بهذا القول عليه العنة، ولم ترد أن ذلك منه في دقة الهدبة، إنما أرادت أنه كالهدبة ضعفا واسترخاء.

يدل على صحة هذا رواية عكرمة، ذكره محمد بن إسماعيل البخاري، عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن عكرمة أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير قالت: عائشة فجاءت وعليها خمار أخضر، فشكت إلى عائشة، وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله -والنساء ينصر بعضهن بعضا- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما تلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها. قال: وسمع أنها قد أتت رسول الله فجاء ومعه ابنان له من غيرها. قالت: والله ما لي إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه، وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: كذبت والله يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله: "فإن كان ذلك لم تحلي له حتى تذوقي عسيلته" قال: فأبصر معه ابنين له، فقال: "بنوك هؤلاء؟" فقال: نعم، قال: "هذا الذي تزعمين ما تزعمين، فوالله لهم أشبه به من الغراب بالغراب".

فهذه القصة بطولها تدل على أنها جاءت تدعي عليه العنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية