الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
قال أبو سليمان في حديث أبي الدرداء أنه قال: لأنا أعلم بشراركم من البيطار بالخيل هم الذين لا يأتون الصلاة إلا دبرا ولا يسمعون القرآن إلا هجرا ولا يعتق محرروهم.  

حدثنيه ابن مالك نا الحسن بن سفيان نا ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء. ذكره ابن قتيبة في كتابه ورواه: لا يسمعون القول إلا هجرا قال: وهو الخنا والقبيح من القول.

قال أبو سليمان: هذا غلط وذلك لأن أحدا ممن أنكر القرآن أو عارضه لم يزعم أن شيئا من كلامه يدخله الخنا أو يخالطه الفحش ولم يمكنه أن يدعي شيئا من هذا عليه لنزاهة ألفاظه عن دنس الهجر وبراءتها من قذع الفحش وإنما رموه بالصنعة والتزوير لرائع ألفاظه وبديع نظامه فمرة ادعوا عليه السحر لإعجازه ومرة نحلوه الصنعة لحسن بيانه فأما أن يعيبوه بأنه هجر من القول وإفحاش فأمر خارج عن جملة ما أجروا إليه في رده وإنكاره، وكيف كان يروج ذلك لمن تعاطاه والحواس من السامعين له تكذب القائلين به وتقضي بالجهل وسوء الفهم، هذا لا وجه له ولا معنى فيه وإنما الرواية الصحيحة هجرا بفتح الهاء ومعناه الترك له والإعراض عنه يقال هجرت الشيء هجرا بمعنى أغفلته وتركته قال الشاعر [ ص: 343 ] :


وأكثر هجر البيت حتى كأنني مللت وما بي من ملال ومن هجر

ويدل على صحة هذا قوله: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ومنه قول عبد الله بن مسعود ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا ولا يذكر الله إلا مهاجرا يريد هجران القلب وترك الإخلاص في الذكر وقد وصف الله به المنافقين فقال يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا .

وقد يكون الهجر أيضا بمعنى الهذيان، والتخليط في الكلام بمنزله كلام المبرسم وحديث من لا يعقل ما يقول يقال هجر المريض يهجر هجرا، ومنه قوله تعالى: سامرا تهجرون فأما الهجر بضم الهاء فهو الفحش يقال منه أهجر إهجارا بالألف.

قال أبو سليمان وأرى ابن قتيبة إنما أتي في هذا التأويل من جهة اختلاف اللفظ وذلك أنه رواه في كتابه ولا يسمعون القول مكان قوله: ولا يسمعون القرآن فتوهم أنه أراد به قول الناس وحديثهم. وإنما الصحيح من الرواية ما كتبناه هاهنا على أنه لا فرق بينهما في المعنى وذلك لأنه إنما أراد بالقول القرآن كقوله: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه يريد القرآن والله أعلم [ ص: 344 ] .

وأما قوله: ولا يعتق محرروهم فإنه قد فسره بمعنى أنهم إذا أعتقوا عبدا لم يطلقوه لكنهم يستخدمونه كما يستخدم العبد فمتى أراد فراقهم ادعوا رقه. قال أبو سليمان وهذا وجه وقد بقي فيه قولان آخران:

أحدهما أنهم إذا أعتقوا عبدا اعتدوا عليه بالعتق واستعبدوه بالمنة فيبطل بذلك أجرهم قال الله تعالى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى .

والوجه الآخر أن يكون ذلك في ولاء من أعتقوه وذلك أن العرب كانت تبيع الولاء وتهبه وتناقله تناقل الملك فلذلك نهى صلى الله عليه عن بيع الولاء وهبته. وقال: الولاء لحمة كلحمة النسب.

وأنشد ابن الأعرابي عن المفضل يذكر هذا الصنيع لقوم في مولى لهم:


فباعوه عبدا ثم باعوه معتقا     فليس له حتى الممات خلاص

.

التالي السابق


الخدمات العلمية