الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه: أنه لما توجه نحو المدينة خرج بريدة الأسلمي في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم فيتلقى نبي الله ليلا فقال له: "من أنت" قال بريدة فالتفت إلى أبي بكر وقال: "يا أبا بكر برد أمرنا وصلح" ثم قال: "ممن"؟ [ ص: 181 ] قال من أسلم قال لأبي بكر: "سلمنا" ثم قال: "ممن" قال من بني سهم قال: "خرج سهمك"   .

حدثنيه محمد بن سعدويه أنا ابن الجنيد ثنا الحسين بن حريث ثنا أوس بن عبد الله بن بريدة حدثني الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.

قوله: برد أمرنا فيه قولان أحدهما أن يكون معناه سهل أمرنا ومنه قوله صلى الله عليه: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" ويقال عيش بارد أي ناعم سهل ومن هذا قولهم في الدعاء للميت اللهم برد عليه مضجعه وأنشد الباهلي:


قليلة لحم الناظرين يزينها شباب ومخفوض من العيش بارد

والوجه الآخر أن يكون معناه ثبت أمرنا واستقام من قولهم برد لي على فلان حق أي وجب وثبت قال الأصمعي ما برد لك على فلان شيء وكذلك ما ذاب لك عليه شيء ويقال إن أصحابك لا يبالون ما بردوا عليك أي ما ثبتوا عليك قال الشاعر:


اليوم يوم بارد سمومه     من جزع اليوم فلا نلومه

أي ثابت سمومه.

وفيه وجه آخر وهو أن يكون برد بمعنى ضعف وفتر يريد به أمر [ ص: 182 ] قريش والخارجين في أثره من الطلب يقال جد فلان في الأمر ثم برد أي فتر واسترخى قال الراجز:


الأبيضان أبردا عظامي     الفث والماء بلا إدام

ويقال: ضربه بالسيف حتى برد أي مات وسكن.

وأخبرني أبو عمر أنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي قال سمعت أبا المكارم قال كان منا فتى يقال له في الحي علق وكان عفيف الخلوة فجاءنا يوما وهي في بيتها فدخل يتحدث إليها فأسرع الخروج فقلنا له ما لك قال منعني البرد قال فدخلنا فإذا الجارية ميتة ومن هذا حديث عمر بن الخطاب أنه شرب النبيذ بعد ما برد غليه أي سكن وقد يجوز أن يكون النوم إنما سمي بردا لهذا المعنى ذلك لأنه يرخي المفاصل ويسكنها وزعم بعضهم أنه إنما سمي بردا لأنه يبرد حرارة العطش ويسكنها.

وقوله: خرج سهمك معناه الفلج والظفر وأصله في الشيء يتداعاه الجماعة فيستهمون عليه أي يجيلون السهام فمن خرج سهمه منهم حازه دون أصحابه قال الله تعالى: فساهم فكان من المدحضين وقال: إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم [ ص: 183 ] .

وفي الحديث من الفقه استحباب الفأل والتيمن بالاسم الحسن  وكان رسول الله صلى الله عليه يحب الفأل ويكره التطير.

أخبرني أبو محمد الكراني ثنا عبد الله بن شبيب نا زكريا بن يحيى المنقري نا الأصمعي قال سئل ابن عون عن الفأل فقال هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم أو يكون باغيا فيسمع يا واجد.

والفرق بين الفأل والطيرة  أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله عز وجل والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه وفي هذه القصة أن بريدة أسلم ومعه سبعون راكبا من أهل بيته ثم قال الحمد لله إذ أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين ودعا لهم رسول الله فقال: "أسلم سالمها الله" وذلك لأن إسلامهم كان سلما عن غير حرب.

وأما قوله: "غفار غفر الله لها" فنرى -والله أعلم- أنه إنما خصهم بالدعاء بالمغفرة لمبادرتهم إلى الإسلام وقد أسلم أبو ذر في أول أيام رسول الله وهو بمكة غير ظاهر وفي قصة إسلامه أنه قال أتيت رسول الله فأسلمت فرأيت الاستبشار في وجهه فقال: "من أنت" قلت أنا جندب رجل من غفار فكأنه ارتدع وود أني كنت من غير قبيلتي وذلك لما كانوا يقرفون به من الشر وكانوا يستحلون الشهر الحرام في الجاهلية، [ ص: 184 ] ويسرقون الحجيج فيشبه أن يكون والله أعلم إنما دعا لهم بالمغفرة ليمحو تلك السبة ويزيلها عنهم ثم حسن بلاء هاتين القبيلتين في الإسلام.

حدثنا محمد بن يحيى نا الصائغ نا إبراهيم بن المنذر الحزامي عن محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال ويقال كان مع رسول الله صلى الله عليه صلى الله عليه يوم حنين من أسلم أربع مائة ومن غفار مثل ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية