ذكره ابن قتيبة في كتابه فقال : أراد القوم اللحن الذي هو الخطأ ، وذهب معاوية إلى اللحن الذي هو الفطنة ، قال : والأول بسكون الحاء والثاني بفتحها ، قال : وأما قول الآخر :
منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا
فإنه أراد اللحن الذي هو الخطأ كأنه استملحه في المرأة ، واستثقل منها الإعراب .قال : وكان بعضهم يذهب في قول معاوية في عبيد الله بن زياد هذا المذهب ولا أراه كذلك .
قال والأصل الذي تجري عليه عادة البيان أن يكون الجواب وفقا للسؤال ومحمولا على حكمه ، وما دام التوفيق ممكنا فالتفريق لا وجه له ، ومن البعيد الممتنع أن يكون معاوية وقومه وهم عرب صرحاء إذا تخاطبوا لم يتفاهموا وأن يذهب بعضهم عن مراد بعض هذا الذهاب وأن يتباينوا هذا التباين واللغة واحدة والعيون متواجهة والأسباب إلى المقاصد مشيرة وعليها دليلة مثل هذا الوصف ينبو عنهم ولا يليق بهم . أبو سليمان :
[ ص: 537 ] وفي تأويل هذا الكلام وجوه ، أحدها أن يكون القوم إنما أرادوا اللحن الذي هو الخطأ وأن يكون معاوية قد استحسن منه السهولة في كلامه وابتذال السليقية في خطابه ورأى أن تركه تفخيم الكلام وإشباعه بالإعراب نوع من الظرف وباب من الأخذ بخفة المؤونة في إفهام من يخاطبه ممن لا يتسع لمعرفة الإعراب ولا يكمل لضبطه عنه لا سيما وهو أمير أو رئيس ينفذ قوله وتلزم طاعته . وقد نحا هذا النحو جماعة من كملة الرؤساء وأجلة الولاة والأمراء .
وقال بعضهم لأصحابه : لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم ، ولا تخلوا منه كتبكم إذا كاتبتم ، وعابوا الحجاج حين يقول لطباخه : اتخذ لنا غبربية وأكثر فيجنها فخرج يسأل عنها فلم يكن بحضرته أحد يفهم ما أراد حتى عادوا إليه فسألوه ، فقال : إنما قلت له اتخذ لنا سماقية وأكثر فيها السذاب .
ودخل الجند على بعض الولاة ببغداد أيام فتنة المستعين ، فقالوا : قد اقتحم الأتراك من بعض أبواب المدينة فقال لهم : استلئموا سدفة فخرجوا يسألون عن هذا الكلام ولا يفهمونه حتى جاؤوا إلى باب ثعلب فقال : يقول لكم : بكروا غدا في السلاح فهذا وجه .
والثاني : أن يكون القوم إنما أرادوا به لحن الفطنة كما أرادها معاوية إلا أنهم لم يجعلوا قولهم على أنه يلحن استثناء من قولهم : ظريف إنما أرادوا بذلك المبالغة في مدحه واشتراطا للزيادة في ظرفه كقول النابغة الجعدي [ ص: 538 ] :
فتى كان فيه ما يسر صديقه على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فتى كملت خيراته غير أنه جواد فما يبقي من المال باقيا
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل
ووجه ثالث : وهو أن يكون إنما أرادوا باللحن اللكنة التي كان ابن زياد يرتضخها ذكروا أنه كان يرتضخ لكنة فارسية .
وقال لرجل اتهمه برأي الخوارج : أهروري أنت ؟ يريد أحروري . وقال في كلام له : من كاتلنا كاتلناه يريد قاتلنا وإنما أتته هذه اللكنة من قبل أمه شيرويه ، وكانت ابنة بعض ملوك فارس يزدجرد أو غيره فقد [ ص: 539 ] يكون معاوية لما رأى القوم يعيبونه بها صرف الأمر فيها عن وجه العيب إلى ناحية المدح ، فقال : أوليس ذاك أظرف له يريد أوليس ذلك أنجب له إذا نزع بالشبه إلى الخال وكانت ملوك فارس تذكر بالسياسة وتوصف بمحاسن الشيم ، والعرب تعظم أمر الخؤولة وتكاد تغلبه في الشبه على بعض العمومة ، أنشدني لبعضهم : أبو عمر
عليك الخال إن الخال يسري إلى ابن الأخت بالشبه المتين
فإن ابن أخت القوم مكفى إناؤه إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
ولم يقصد بهذا معاوية مدحه على اللحن ، ولا كان يرى اللحن ظرفا ، وإنما أشار بذلك أنه قد نزع إلى أخواله ، وكانوا ملوكا أهل أدب وظرف . فأما قول الآخر :
منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا
قال اللحن هجين حيث كان مستقبح من صاحبه رجلا كان أو امرأة ، وإنما أثنى عليها بشدة الخفر والحياء الذي يقطعها عن إصابة الإعراب في منطقها فتلحن في كلامها . أبو العباس :
وكان يتأوله على خلاف هذا وذاك وقال : إنما هو من لحن الفطنة يريد أنها تفطن لبعض الحديث لعفافها ، واللحن ساكنة الحاء عنده الفطنة كاللحن الذي هو الخطأ سواء . وعامة أهل اللغة في هذا على خلافه إنما قالوا : في الفطنة اللحن مفتوحة الحاء ، وفي الخطأ اللحن بسكونها . ابن الأعرابي
قال واللحن أيضا اللغة ، قال : وقد روي أن القرآن نزل بلحن قريش أي بلغتهم ، قال : ومنه قول ابن الأعرابي : تعلموا الفرائض والسنة واللحن : أي اللغة . عمر :
قال : واللحن فحوى الكلام ومعناه ومنه قول الله : ولتعرفنهم في لحن القول .
قال غيره : واللحن الصوت أيضا ، قال الفرزدق :
وداع بلحن الكلب يدعو ودونه من الليل سجفا ظلمة وستورها
[ ص: 541 ] وقال آخر يصف طائرين :
باتا على غصن بان في ذرى فنن يرددان لحونا ذات ألوان
ومن هذا قول بعض السلف : إذا كان اللص ظريفا لم يقطع ، يريد أنه قد يتخلص للحجة فيدفع بها عن نفسه فيقول إذا وجدت معه السرقة قد التقطتها أو كانت عندي وديعة فخنتها أو ما أشبه هذا من الكلام .
وحدثنا نا ابن الأعرابي ، عبد الصمد بن عبد الله بن أبي يزيد الدمشقي ، نا أيوب بن إسحاق ، نا نا منصور بن سلمة الخزاعي ، شبيب بن شيبة ، سمعت يقول : الكلام أكثر من أن يكذب ظريف . يريد أن الظريف لا تضيق عنه معاني الكلام فهو قد يكني ، ويعرض ولا يكذب ، وهذا كما قيل : إن في المعاريض مندوحة عن الكذب . ابن سيرين
وقال العرب تقول : الظرف في اللسان والملاحة في الفم . ابن الأعرابي :
وأخبرني ابن شابورة ، نا قال : قال علي بن عبد العزيز العرب تقول : الملاحة في الفم ، والحلاوة في العينين ، والجمال في الأنف . الأصمعي :
[ ص: 542 ]