الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث معاوية أنه قال : كيف ابن زياد ؟ فقالوا : ظريف على أنه يلحن ، فقال : أوليس ذاك أظرف له   .

ذكره ابن قتيبة في كتابه فقال : أراد القوم اللحن الذي هو الخطأ ، وذهب معاوية إلى اللحن الذي هو الفطنة ، قال : والأول بسكون الحاء والثاني بفتحها ، قال : وأما قول الآخر :


منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا

فإنه أراد اللحن الذي هو الخطأ كأنه استملحه في المرأة ، واستثقل منها الإعراب .

قال : وكان بعضهم يذهب في قول معاوية في عبيد الله بن زياد هذا المذهب ولا أراه كذلك .

قال أبو سليمان : والأصل الذي تجري عليه عادة البيان أن يكون الجواب وفقا للسؤال ومحمولا على حكمه ، وما دام التوفيق ممكنا فالتفريق لا وجه له ، ومن البعيد الممتنع أن يكون معاوية وقومه وهم عرب صرحاء إذا تخاطبوا لم يتفاهموا وأن يذهب بعضهم عن مراد بعض هذا الذهاب وأن يتباينوا هذا التباين واللغة واحدة والعيون متواجهة والأسباب إلى المقاصد مشيرة وعليها دليلة مثل هذا الوصف ينبو عنهم ولا يليق بهم .

[ ص: 537 ] وفي تأويل هذا الكلام وجوه ، أحدها أن يكون القوم إنما أرادوا اللحن الذي هو الخطأ وأن يكون معاوية قد استحسن منه السهولة في كلامه وابتذال السليقية في خطابه ورأى أن تركه تفخيم الكلام وإشباعه بالإعراب نوع من الظرف وباب من الأخذ بخفة المؤونة في إفهام من يخاطبه ممن لا يتسع لمعرفة الإعراب ولا يكمل لضبطه عنه لا سيما وهو أمير أو رئيس ينفذ قوله وتلزم طاعته . وقد نحا هذا النحو جماعة من كملة الرؤساء وأجلة الولاة والأمراء .

وقال بعضهم لأصحابه : لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم ، ولا تخلوا منه كتبكم إذا كاتبتم ، وعابوا الحجاج حين يقول لطباخه : اتخذ لنا غبربية وأكثر فيجنها فخرج يسأل عنها فلم يكن بحضرته أحد يفهم ما أراد حتى عادوا إليه فسألوه ، فقال : إنما قلت له اتخذ لنا سماقية وأكثر فيها السذاب .

ودخل الجند على بعض الولاة ببغداد أيام فتنة المستعين ، فقالوا : قد اقتحم الأتراك من بعض أبواب المدينة فقال لهم : استلئموا سدفة فخرجوا يسألون عن هذا الكلام ولا يفهمونه حتى جاؤوا إلى باب ثعلب فقال : يقول لكم : بكروا غدا في السلاح فهذا وجه .

والثاني : أن يكون القوم إنما أرادوا به لحن الفطنة كما أرادها معاوية إلا أنهم لم يجعلوا قولهم على أنه يلحن استثناء من قولهم : ظريف إنما أرادوا بذلك المبالغة في مدحه واشتراطا للزيادة في ظرفه كقول النابغة الجعدي [ ص: 538 ] :


فتى كان فيه ما يسر صديقه     على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فتى كملت خيراته غير أنه     جواد فما يبقي من المال باقيا

وكقول النابغة الذبياني :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

وكقول الآخر :


ولا عيب فينا غير عرق لمعشر     كرام وأنا لا نخط على النمل

أي لسنا بمجوس وذلك أنهم كانوا يقولون : إن الرجل إذا خرجت به النملة فخط عليه ابنه من أخته أو ابنته برأ الرجل هذا تفسير الأصمعي وغيره من أهل اللغة إلا ابن الأعرابي وحده ، فإنه يرويه يحط بالحاء غير معجمة يقول : إنا لا نأتي بيوت النمل في الجدب فنحفر على ما قد جمع لنأكله .

ووجه ثالث : وهو أن يكون إنما أرادوا باللحن اللكنة التي كان ابن زياد يرتضخها ذكروا أنه كان يرتضخ لكنة فارسية .

وقال لرجل اتهمه برأي الخوارج : أهروري أنت ؟ يريد أحروري . وقال في كلام له : من كاتلنا كاتلناه يريد قاتلنا وإنما أتته هذه اللكنة من قبل أمه شيرويه ، وكانت ابنة بعض ملوك فارس يزدجرد أو غيره فقد [ ص: 539 ] يكون معاوية لما رأى القوم يعيبونه بها صرف الأمر فيها عن وجه العيب إلى ناحية المدح ، فقال : أوليس ذاك أظرف له يريد أوليس ذلك أنجب له إذا نزع بالشبه إلى الخال وكانت ملوك فارس تذكر بالسياسة وتوصف بمحاسن الشيم ، والعرب تعظم أمر الخؤولة وتكاد تغلبه في الشبه على بعض العمومة ، أنشدني أبو عمر لبعضهم :


عليك الخال إن الخال يسري     إلى ابن الأخت بالشبه المتين

وقال آخر :


فإن ابن أخت القوم مكفى إناؤه     إذا لم يزاحم خاله بأب جلد

وحدثني علكان المروزي ، نا علي بن بشير ، نا حسين بن عمرو العنقري ، حدثني أبو بلال الأشعري ، قال : قال تبيع صاحب كعب الأحبار : من أعرقت فيه الفارسيات لم يخطه دين أو حلم ، ومن أعرقت فيه الروميات لم يخطه شدة أو نقابة ، ومن أعرقت فيه البربريات لم يخطه حدة أو تكلف ، ومن أعرقت فيه الحبشيات لم يخطه سكر أو تأنيث .

ولم يقصد بهذا معاوية مدحه على اللحن ، ولا كان يرى اللحن ظرفا ، وإنما أشار بذلك أنه قد نزع إلى أخواله ، وكانوا ملوكا أهل أدب وظرف . فأما قول الآخر :


منطق صائب وتلحن أحيا     نا وخير الحديث ما كان لحنا

وتأويل ابن قتيبة له على أن اللحن يستملح من المرأة ويستثقل منها [ ص: 540 ] الإعراب فقد قيل هذا ، وكان أبو العباس ثعلب يقول في ذلك بخلاف هذا القول .

قال أبو العباس : اللحن هجين حيث كان مستقبح من صاحبه رجلا كان أو امرأة ، وإنما أثنى عليها بشدة الخفر والحياء الذي يقطعها عن إصابة الإعراب في منطقها فتلحن في كلامها .

وكان ابن الأعرابي يتأوله على خلاف هذا وذاك وقال : إنما هو من لحن الفطنة يريد أنها تفطن لبعض الحديث لعفافها ، واللحن ساكنة الحاء عنده الفطنة كاللحن الذي هو الخطأ سواء . وعامة أهل اللغة في هذا على خلافه إنما قالوا : في الفطنة اللحن مفتوحة الحاء ، وفي الخطأ اللحن بسكونها .

قال ابن الأعرابي : واللحن أيضا اللغة ، قال : وقد روي أن القرآن نزل بلحن قريش أي بلغتهم ، قال : ومنه قول عمر : تعلموا الفرائض والسنة واللحن : أي اللغة .

قال : واللحن فحوى الكلام ومعناه ومنه قول الله : ولتعرفنهم في لحن القول .

قال غيره : واللحن الصوت أيضا ، قال الفرزدق :


وداع بلحن الكلب يدعو ودونه     من الليل سجفا ظلمة وستورها



[ ص: 541 ] وقال آخر يصف طائرين :


باتا على غصن بان في ذرى فنن     يرددان لحونا ذات ألوان

فأما قولهم : فلان ظريف فإن الظرف أدب اللسان خاصة .

ومن هذا قول بعض السلف : إذا كان اللص ظريفا لم يقطع ، يريد أنه قد يتخلص للحجة فيدفع بها عن نفسه فيقول إذا وجدت معه السرقة قد التقطتها أو كانت عندي وديعة فخنتها أو ما أشبه هذا من الكلام .

وحدثنا ابن الأعرابي ، نا عبد الصمد بن عبد الله بن أبي يزيد الدمشقي ، نا أيوب بن إسحاق ، نا منصور بن سلمة الخزاعي ، نا شبيب بن شيبة ، سمعت ابن سيرين يقول : الكلام أكثر من أن يكذب ظريف . يريد أن الظريف لا تضيق عنه معاني الكلام فهو قد يكني ، ويعرض ولا يكذب ، وهذا كما قيل : إن في المعاريض مندوحة عن الكذب .

وقال ابن الأعرابي : العرب تقول : الظرف في اللسان والملاحة في الفم .

وأخبرني ابن شابورة ، نا علي بن عبد العزيز قال : قال الأصمعي : العرب تقول : الملاحة في الفم ، والحلاوة في العينين ، والجمال في الأنف .

[ ص: 542 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية