باب ذكر الماء الفاصل بين الماء الحامل للنجاسة وبين غيره من المياه الراكدة ، وموضع الاختيار منه .
قال قد أكثرت العلماء الكلام في الماء قديما وحديثا. فقال ناس من أهل الأثر بالقول الأول في الرخصة والسعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أبو عبيد: "لا ينجس الماء شيء" وقال آخرون: بالتغليظ والكراهة ، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البول والاغتسال من الجنابة في الماء الدائم. [ ص: 234 ]
فكلا الفريقين لم يوقت في مبلغ ذلك الماء وقتا، وأما أهل العراق من أصحاب الرأي فيذهبون فيه إلى التوقيت فجعلوا الحد المفرق بينهما اضطراب الماء وتحركه ، فقالوا: ما كان منه إذا حركت ناحيته فلم يبلغ به التحرك الناحية الأخرى وقصر عن ذلك فهو عندهم الذي لا ينجس قالوا: فإن بلغ به ذلك التحرك إلى أقصاه فهو الذي تنجسه الأقذار.
وحجتهم فيما يرى: أن الذي يلحق بعضه بعضا في التحريك ضعيف تمتزج به النجاسة ، وأنه إذا اتسع حتى تبعد أطرافه بعضها من بعض ، ولا يتلاحق فإن الأنجاس لا تمتزج به ، ولا تقوى عليه.
وأما أهل الحجاز فإن العامة كانوا يحكون عنهم التوسع فيه نحو ما روينا في الباب الأول ، أنه لا ينجسه شيء ، ورأيناهم ، أو من رأينا منهم ، [ ص: 235 ] ينكرون ذلك ، وقالوا فيه نحو قول أهل العراق ، غير أنه لا حد عندهم يوقتونه لهؤلاء ، على أن بعضهم قد حكى عن أنه قال: في المصانع العظام أنها لا تنجس. مالك
قال وإن الذي عندنا في الماء أنه لا يجوز فيه التحديد والتوقيت بالظن والرأي لأن الطهور من أصل الدين المفروض ، ولا يوجد إلا من كتاب أو سنة ، وإنا تدبرنا الآثار فوجدناها قد نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع ، منها: اثنان عامان ، وواحد خاص ، فالعامان: هما الباب الأول والثاني ، اللذان فيهما السعة والتغليظ ، والخاص: هو الباب الذي فيه الوقت. فمن أخذ بالأولين اللذين فيهما العموم خرجا به إلى ما يفحش ، وتنكره الأمة. أبو عبيد:
ألست تعلم أن من جعل الرخصة عامة ، فقال: الماء لا ينجسه شيء أبدا ، في الحالات كلها ، فإنه يلزمه أن يقول في رجل أتى بإنائه ليتوضأ منه [ ص: 236 ] فبال فيه بائل: إن له أن يتوضأ به ، لأنه عنده لا ينجسه شيء.
وكذلك من جعل التغليظ عاما في الحالات كلها ، فإنه يلزمه في البحار والبطائح وما أشبههما: أن البول والاغتسال من الجنابة فيها ينجسها ، فأي المسلمين لا ينكر هذين المذهبين ولا يستوحش منهما وأشد من هذين جميعا القول فيه بالاستحسان والرأي وهو ذكر الاضطراب والتحرك ، فكل هذه الوجوه الثلاثة ، لا أرى العمل بشيء منها ، ولكن الذي نختاره ونرى العمل به: الحديث الذي فيه التوقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو القلتان أو الثلاث ، ثم أفتى به مجاهد والحسن في القلتين ، وقد ذكرنا حديثهما ، وليس هذا بخلاف الأحاديث الأولى التي فيها الرخصة والتي فيها التغليظ ، ولكنه عندنا مفسر لها ، وقاض عليها ، لأن تلك مجملة ، وهذا ملخص ، وكذلك كل أمر معلوم ، فهو الحاكم على المجهول ، وإلى هذا انتهى قولنا في الماء تمسكا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 237 ] واقتصاصا لأثره، فإذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا فهو الذي لا ينجسه شيء ، ولا يزال طاهرا ما لم يصر مغلوبا برائحة الأنجاس أو طعمها ، فإذا صار إلى ذلك كان قد زايله حينئذ اسم الماء الذي اشترط الله جل وعز في تنزيله حين قال: فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا وقد سمعنا في الطعم والريح حديثا مرفوعا،.