فصل
nindex.php?page=treesubj&link=28821واختلف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه ينزل بذاته ، وهو قول
الإمام أبي القاسم التيمي وهو من أجل
الشافعية له التصانيف المشهورة كالحجة في بيان المحجة ، وكتاب الترغيب والترهيب وغيرهما ، وهو متفق على إمامته وجلالته ، قال شيخنا : وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة
والصوفية والمتكلمين ، وروي في ذلك حديث مرفوع لا يثبت رفعه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12168أبو موسى المديني : إسناده مدخول وفيه يقال : وعلى بعضهم مطعن لا تقوم بمثله الحجة ، ولا يجوز نسبة قوله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كنا نعتقد صحته إلا أن يرد بإسناد صحيح .
وقالت طائفة منهم : لا ينزل بذاته ، وقالت فرقة أخرى : نقول ينزل ولا نقول بذاته ولا بغير ذاته ، بل نطلق اللفظ كما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه .
واختلفوا أيضا هل يخلو العرش منه ؟ فقالت طائفة ينزل ويخلو منه العرش ، وقالت طائفة لا يخلو منه العرش ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى في كتاب الوجهين والروايتين : لا تختلف أصحابنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=28731الله ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، كما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ساق حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=63وعبادة بن الصامت ثم قال : واختلفوا في صفته ، فذهب شيخنا
أبو عبد الله إلى أنه نزول انتقال ، قال : لأن هذا حقيقة النزول عند العرب ، وهو نظير قوله في الاستواء بمعنى قعد ، قال : وهذا على ظاهر حديث
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت .
( قلت ) يريد قوله ثم يعلو تبارك وتعالى على كرسيه ، قال لأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا ، وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثا
nindex.php?page=treesubj&link=28728كالاستواء على العرش هو موصوف به مع اختلافنا في صفته ، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفا
[ ص: 470 ] به في القدم ، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت وإن كان هذا يوجب الحدث في حقنا ولم يوجبه في حقه ، وكذلك النزول .
قال : وحكى شيخنا عن طائفة من أصحابنا أنهم قالوا : ينزل ، معناه قدرته ولعل هذا القائل ذاهب إلى ظاهر كلام
أحمد في رواية
حنبل أنه قال يوم احتجوا على : يومئذ ، تجيء البقرة يوم القيامة ويجيء تبارك وتعالى ، قلت لهم : هذا الثواب ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=22وجاء ربك والملك صفا صفا ) إنما يأتي قدرته ، وإنما القرآن أمثال ومواعظ وزجر .
وذكر
أحمد أيضا فيما خرجه في الحبس :
nindex.php?page=treesubj&link=29626كلام الله لا يجيء ولا يتغير من حال إلى حال ، ووجه هذا أن النزول هو الزوال والانتقال : ولهذا قلنا في الاستواء إنه لا بمعنى المماسة والمباينة ، لأن ذلك من صفات الحدث والانتقال وهذا من صفات الحدث .
قال : وحكى شيخنا عن طائفة أخرى من أصحابنا أنهم قالوا نثبت نزولا ولا نعقل معناه : هل هو بزوال أو بغير زوال كما جاء الخبر ، ومثل هذا ليس بممتنع في صفاته ، كما نثبت ذاتا لا تعقل ، قال وهذه الطريقة هي المذهب ، وقد نص عليها
أحمد في مواضع ، فقال
حنبل : قلت
لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا ؟ قال : نعم ، قلت : نزوله بعلمه أم ماذا ؟ فقال لي : اسكت عن هذا وغضب غضبا شديدا، وقال أمض الحديث على ما روي .
قلت : أما قول
ابن حامد إنه نزول انتقال فهو موافق قول من يقول يخلو منه العرش ، والذي حمله على هذا إثبات حقيقة ، وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال ورأى أنه ليس في العقل ولا في النقل ما يحيل الانتقال عليه ، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط ، هذه أنواع الفعل اللازم القائم به ، كما أن الخلق والرزق والإماتة والإحياء والقبض والبسط أنواع للفعل المتعدي ، وهو سبحانه موصوف بالنوعين وقد يجمعهما كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=54خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) والانتقال جنس لأنواع المجيء والإتيان ، والنزول والهبوط ، والصعود . والدنو والتدلي ونحوها ، وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين .
قالوا : وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور
[ ص: 471 ] البتة ، ولا يستلزم ذلك نقصا ولا سلب كمال ، بل هو الكمال نفسه ، وهذه الأفعال كمال ومدح ، فهي حق دل عليه النقل ، ولازم الحق حق كما أن
nindex.php?page=treesubj&link=29626العقل والنقل قد اتفقا على أنه سبحانه حي متكلم ، قدير عليم مريد ، وما لزم من ذلك تعين القول به ، فإنه لازم الحق ، وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=28725رؤيته تعالى بالأبصار عيانا في الآخرة هو حق ، فلازمه حق كائنا ما كان ، والعجب أن هؤلاء يدعون أنهم أرباب المعقولات ، وهم يجمعون بين إثبات الشيء ونفي لازمه ، ويصرحون بإثباته ، ويثبتون لوازمه بإثباته ، ويصرحون بنفيه ، ولهذا عقلاؤهم لا يسمحون بإثبات شيء من ذلك ، فلا يثبتون لله نزولا ولا مجيئا ، ولا إتيانا ولا دنوا ، ولا استواء ولا صعودا البتة ، وإثبات هذه الحقائق عندهم في الامتناع كإثبات الأكل والشرب والنوم ونحوها ، والفرق بين هذا وهذا ثابت عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبارا ، فالتسوية بينهما في غاية البطلان .
قالوا وقولنا إنه نزول لاعتبار لا محذور فيه ، فإنه ليس كانتقال الأجسام من مكان إلى مكان ، كما قلتم إن سمعه وبصره وحياته وقدرته وإرادته ليست كصفات الأجسام ، فليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
قالوا ونحن لم نتقدم بين يدي الله ورسوله ، بل أثبتنا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، فألزمتم أنتم من أثبت ذلك القول بالانتقال ، ومعلوم أن هذا الإلزام إنما هو إلزام لله ورسوله ، فإنا لم نتعد ما وصف به نفسه ، فكأنكم قلتم من أثبت له نزولا ومجيئا وإتيانا ودنوا لزمه وصفه بالانتقال ، والله ورسوله هو الذي أثبت ذلك لنفسه فهو حق بلا ريب ، فكان جوابنا إن الانتقال إن لزم من إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه في ذلك والإيمان به ، فلا بد من إثباته ضرورة ، وإن لم يلزم ، بطل إلزامكم ونظير هذا مناظرة جرت بين جهمي وسني .
قال الجهمي : أنت تزعم أن الله يرى في الآخرة عيانا بالأبصر ؟ قال السني : نعم ، فقال له الجهمي : هذا يلزم منه إثبات الجهة والحد وكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له ، وهذا تشبيه وتجسيم ، قال له السني : قد دل القرآن والسنة المتواترة واتفاق الصحابة وجميع أهل السنة وأئمة الإسلام على أن الله يرى في الآخرة ، وقد شهد بذلك الرسول وبلغه الأمة ، وأعاده وأبداه ، فذلك حق لا ريب فيه ، فإن لزم ما ذكرت فلازم الحق حق ، وإن لم يلزم بطل سؤالك .
وقال بعض
الجهمية لبعض أصحابنا : أتقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ؟ فقال
[ ص: 472 ] ومن أنا حتى أقول ذلك ، فقد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه الأمة ، فقال له الجهمي : هذا يلزم منه الحركة والانتقال ، فقال له السني : أنا لم أقل من عندي شيئا ، وهذا الإلزام لمن قال ذلك وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه واجب علينا ، فإن كان تصديقه على ذلك بطل الإلزام به ، فبهت الجهمي .
قالوا وقد دل العقل والشرع على أن الله سبحانه حي فعال ، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل ، فالفعل الاختياري من لوازم الحياة فالإرادة والمشيئة من لوازم الفعل ، وللفعل لوازم لا يجوز نفيها ، إذ نفيها يستلزم نفي الفعل الاختياري ، ولهذا لما نفاها
الدهرية والفلاسفة نفوا الفعل الاختياري من أصله .
قالوا : ومن لوازم الفعل والترك ، الحب والبغض وانتقال الفاعل من شأن إلى شأن ، والرب تبارك وتعالى كل يوم هو في شأن ، ومن كان على حال واحد قبل الفعل وحال الفعل وبعد الفعل لم يعقل كونه فاعلا باختياره ، بل ولا فاعلا البتة ، فليس مع نفاة لوازم الأفعال إلا إثبات ألفاظ لا حقائق لها .
والمقصود أن هؤلاء قالوا : نحن لم نصرح بالانتقال من عند أنفسنا ، ولكن الله ورسوله قالاه .
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=28821وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي نُزُولِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ
الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ التَّيْمِيِّ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ
الشَّافِعِيَّةِ لَهُ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ كَالْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْمَحَجَّةِ ، وَكِتَابِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى إِمَامَتِهِ وَجَلَالَتِهِ ، قَالَ شَيْخُنَا : وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ
وَالصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12168أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ : إِسْنَادُهُ مَدْخُولٌ وَفِيهِ يُقَالُ : وَعَلَى بَعْضِهِمْ مَطْعَنٌ لَا تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ ، وَلَا يَجُوزُ نِسْبَةُ قَوْلِهِ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ إِلَّا أَنْ يَرِدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : لَا يَنْزِلُ بِذَاتِهِ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : نَقُولُ يَنْزِلُ وَلَا نَقُولُ بِذَاتِهِ وَلَا بِغَيْرِ ذَاتِهِ ، بَلْ نُطْلِقُ اللَّفْظَ كَمَا أَطْلَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسْكُتُ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يَخْلُو الْعَرْشُ مِنْهُ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَنْزِلُ وَيَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْوَجْهَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ : لَا تَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28731اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ nindex.php?page=showalam&ids=63وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ثُمَّ قَالَ : وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ ، فَذَهَبَ شَيْخُنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنَّهُ نُزُولُ انْتِقَالٍ ، قَالَ : لِأَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ النُّزُولِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الِاسْتِوَاءِ بِمَعْنَى قَعَدَ ، قَالَ : وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=63عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ .
( قُلْتُ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَعْلُو تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ ، قَالَ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ فِي حَقِّنَا ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ فِي حَقِّهِ مُحْدَثًا
nindex.php?page=treesubj&link=28728كَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مَعَ اخْتِلَافِنَا فِي صِفَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْتِوَاءُ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا
[ ص: 470 ] بِهِ فِي الْقِدَمِ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ تَكَلَّمَ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا يُوجِبُ الْحَدَثَ فِي حَقِّنَا وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ النُّزُولُ .
قَالَ : وَحَكَى شَيْخُنَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ قَالُوا : يَنْزِلُ ، مَعْنَاهُ قُدْرَتُهُ وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ ذَاهِبٌ إِلَى ظَاهِرِ كَلَامِ
أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ
حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ احْتَجُّوا عَلَى : يَوْمَئِذٍ ، تَجِيءُ الْبَقَرَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَجِيءُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قُلْتُ لَهُمْ : هَذَا الثَّوَابُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=89&ayano=22وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) إِنَّمَا يَأْتِي قُدْرَتُهُ ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ أَمْثَالٌ وَمَوَاعِظُ وَزَجْرٌ .
وَذَكَرَ
أَحْمَدُ أَيْضًا فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الْحَبْسِ :
nindex.php?page=treesubj&link=29626كَلَامُ اللَّهِ لَا يَجِيءُ وَلَا يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ النُّزُولَ هُوَ الزَّوَالُ وَالِانْتِقَالُ : وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الِاسْتِوَاءِ إِنَّهُ لَا بِمَعْنَى الْمُمَاسَّةِ وَالْمُبَايَنَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ وَالِانْتِقَالِ وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الْحَدَثِ .
قَالَ : وَحَكَى شَيْخُنَا عَنْ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ قَالُوا نُثْبِتُ نُزُولًا وَلَا نَعْقِلُ مَعْنَاهُ : هَلْ هُوَ بِزَوَالٍ أَوْ بِغَيْرِ زَوَالٍ كَمَا جَاءَ الْخَبَرُ ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنَعٍ فِي صِفَاتِهِ ، كَمَا نُثْبِتُ ذَاتًا لَا تُعْقَلُ ، قَالَ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الْمَذْهَبُ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا
أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ ، فَقَالَ
حَنْبَلٌ : قُلْتُ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قُلْتُ : نُزُولُهُ بِعِلْمِهِ أَمْ مَاذَا ؟ فَقَالَ لِيَ : اسْكُتْ عَنْ هَذَا وَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ أَمْضِ الْحَدِيثَ عَلَى مَا رُوِيَ .
قُلْتُ : أَمَّا قَوْلُ
ابْنِ حَامِدٍ إِنَّهُ نُزُولُ انْتِقَالٍ فَهُوَ مُوَافِقٌ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ يَخْلُو مِنْهُ الْعَرْشُ ، وَالَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا إِثْبَاتُ حَقِيقَةٍ ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِالِانْتِقَالِ وَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا فِي النَّقْلِ مَا يُحِيلُ الِانْتِقَالَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ كَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالذَّهَابِ وَالْهُبُوطِ ، هَذِهِ أَنْوَاعُ الْفِعْلِ اللَّازِمِ الْقَائِمِ بِهِ ، كَمَا أَنَّ الْخَلْقَ وَالرِّزْقَ وَالْإِمَاتَةَ وَالْإِحْيَاءَ وَالْقَبْضَ وَالْبَسْطَ أَنْوَاعٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالنَّوْعَيْنِ وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=54خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) وَالِانْتِقَالُ جِنْسٌ لِأَنْوَاعِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ ، وَالنُّزُولِ وَالْهُبُوطِ ، وَالصُّعُودِ . وَالدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي وَنَحْوِهَا ، وَإِثْبَاتُ النَّوْعِ مَعَ نَفْيِ جِنْسِهِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ .
قَالُوا : وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِلَازِمٍ النُّزُولُ وَالْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ وَالِاسْتِوَاءُ وَالصُّعُودُ مَحْذُورٌ
[ ص: 471 ] الْبَتَّةَ ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَقْصًا وَلَا سَلْبَ كَمَالٍ ، بَلْ هُوَ الْكَمَالُ نَفْسُهُ ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ كَمَالٌ وَمَدْحٌ ، فَهِيَ حَقٌّ دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ ، وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ كَمَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29626الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ مُتَكَلِّمٌ ، قَدِيرٌ عَلِيمٌ مُرِيدٌ ، وَمَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَازِمُ الْحَقِّ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=28725رُؤْيَتُهُ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا فِي الْآخِرَةِ هُوَ حَقٌّ ، فَلَازِمُهُ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَالْعَجَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْمَعْقُولَاتِ ، وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِ لَازِمِهِ ، وَيُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِهِ ، وَيُثْبِتُونَ لَوَازِمَهُ بِإِثْبَاتِهِ ، وَيُصَرِّحُونَ بِنَفْيِهِ ، وَلِهَذَا عُقَلَاؤُهُمْ لَا يَسْمَحُونَ بِإِثْبَاتِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ نُزُولًا وَلَا مَجِيئًا ، وَلَا إِتْيَانًا وَلَا دُنُوًّا ، وَلَا اسْتِوَاءً وَلَا صُعُودًا الْبَتَّةَ ، وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ عِنْدَهُمْ فِي الِامْتِنَاعِ كَإِثْبَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَنَحْوِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَنَقْلًا وَفِطْرَةً وَقِيَاسًا وَاعْتِبَارًا ، فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ .
قَالُوا وَقَوْلُنَا إِنَّهُ نُزُولٌ لِاعْتِبَارٍ لَا مَحْذُورَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَانْتِقَالِ الْأَجْسَامِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، كَمَا قُلْتُمْ إِنَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَحَيَاتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَإِرَادَتَهُ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْأَجْسَامِ ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ .
قَالُوا وَنَحْنُ لَمْ نَتَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، بَلْ أَثْبَتْنَا لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَلْزَمْتُمْ أَنْتُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِالِانْتِقَالِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ إِنَّمَا هُوَ إِلْزَامٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَإِنَّا لَمْ نَتَعَدَّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، فَكَأَنَّكُمْ قُلْتُمْ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ نُزُولًا وَمَجِيئًا وَإِتْيَانًا وَدُنُوًّا لَزِمَهُ وَصْفُهُ بِالِانْتِقَالِ ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَهُوَ حَقٌّ بِلَا رَيْبٍ ، فَكَانَ جَوَابُنَا إِنَّ الِانْتِقَالَ إِنْ لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقُهُ فِي ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ ضَرُورَةً ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ، بَطَلَ إِلْزَامُكُمْ وَنَظِيرُ هَذَا مُنَاظَرَةٌ جَرَتْ بَيْنَ جَهْمِيٍّ وَسُنِّيٍّ .
قَالَ الْجَهْمِيُّ : أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا بِالْأَبْصُرِ ؟ قَالَ السُّنِّيُّ : نَعَمْ ، فَقَالَ لَهُ الْجَهْمِيُّ : هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالْحَدِّ وَكَوْنِ الْمَرْئِيِّ مُقَابِلًا لِلرَّائِي مُوَاجِهًا لَهُ ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَتَجْسِيمٌ ، قَالَ لَهُ السُّنِّيُّ : قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ وَبَلَّغَهُ الْأُمَّةَ ، وَأَعَادَهُ وَأَبْدَاهُ ، فَذَلِكَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ ، فَإِنْ لَزِمَ مَا ذَكَرْتَ فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ بَطَلَ سُؤَالُكَ .
وَقَالَ بَعْضُ
الْجَهْمِيَّةِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا : أَتَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ؟ فَقَالَ
[ ص: 472 ] وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَقُولَ ذَلِكَ ، فَقَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَلَّغَهُ الْأُمَّةَ ، فَقَالَ لَهُ الْجَهْمِيُّ : هَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْحَرَكَةُ وَالِانْتِقَالُ ، فَقَالَ لَهُ السُّنِّيُّ : أَنَا لَمْ أَقُلْ مِنْ عِنْدِي شَيْئًا ، وَهَذَا الْإِلْزَامُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقُهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا ، فَإِنْ كَانَ تَصْدِيقُهُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَ الْإِلْزَامُ بِهِ ، فَبُهِتَ الْجَهْمِيُّ .
قَالُوا وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَيٌّ فَعَّالٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ إِلَّا بِالْفِعْلِ ، فَالْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ فَالْإِرَادَةُ وَالْمَشِيئَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ ، وَلِلْفِعْلِ لَوَازِمُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا ، إِذْ نَفْيُهَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ ، وَلِهَذَا لَمَّا نَفَاهَا
الدَّهْرِيَّةُ وَالْفَلَاسِفَةُ نَفَوُا الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِنْ أَصْلِهِ .
قَالُوا : وَمِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ، الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَانْتِقَالُ الْفَاعِلِ مِنْ شَأْنٍ إِلَى شَأْنٍ ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، وَمَنْ كَانَ عَلَى حَالٍ وَاحِدٍ قَبْلَ الْفِعْلِ وَحَالَ الْفِعْلِ وَبَعْدَ الْفِعْلِ لَمْ يُعْقَلْ كَوْنُهُ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ ، بَلْ وَلَا فَاعِلًا الْبَتَّةَ ، فَلَيْسَ مَعَ نُفَاةِ لَوَازِمِ الْأَفْعَالِ إِلَّا إِثْبَاتُ أَلْفَاظٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا : نَحْنُ لَمْ نُصَرِّحْ بِالِانْتِقَالِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَاهُ .