المثال العاشر : مما يظن أنه مجاز وليس بمجاز لفظ (  النداء الإلهي      ) وقد تكرر في الكتاب والسنة تكرارا مطردا في محاله متنوعا يمنع حمله على المجاز ، فأخبر تعالى أنه نادى الأبوين في الجنة ونادى كليمه ، وأنه ينادي عباده يوم القيامة ، وقد ذكر سبحانه النداء في تسعة مواضع في القرآن أخبر فيها عن ندائه بنفسه ، ولا حاجة إلى أن يقيد النداء بالصوت ، فإنه بمعناه وحقيقته باتفاق أهل اللغة ، فإذا انتفى الصوت انتفى النداء قطعا ، ولهذا جاء إيضاحه في الحديث الصحيح الذي بلغناه الصحابة والتابعون وتابعوهم وسائر الأمة تلقته بالقبول وتقييده بالصوت إيضاحا وتأكيدا كما قيد التكليم بالمصدر في قوله تعالى : (  وكلم الله موسى تكليما      ) .  
قال   البخاري  في صحيحه : حدثنا   عمر بن حفص  بن  غياث  حدثنا أبي حدثنا   الأعمش  حدثنا  أبو صالح  عن   أبي سعيد الخدري  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : "  يا  آدم   ، فيقول لبيك وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار     "      [ ص: 488 ] وقال   البخاري     : حدثنا  الحميدي   وعلي بن المديني  قالا : حدثنا  سفيان  حدثنا   عمرو بن دينار  قال : سمعت  عكرمة  يقول سمعت   أبا هريرة  يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "  إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير     " الحديث رواه   النسائي  في التفسير   وابن ماجه  وأبو داود   والترمذي  ، وقال حديث حسن صحيح .  
وروى  أبو داود  من حديث   علي بن الحسين بن إشكاب  ، حدثنا   أبو معاوية الضرير  عن   الأعمش  عن   مسلم بن صبيح  عن  مسروق  عن  عبيد الله  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيضعون ، ولا يزالون كذلك حتى يأتيهم  جبرائيل   ، فإذا جاءهم  جبرائيل   فزع عن قلوبهم فيقولون : يا  جبرائيل      : ماذا قال ربكم ؟ قال الحق ، فينادون الحق الحق     " وهذا الإسناد كلهم أئمة ثقات .  
وقد فسر الصحابة هذه الآية بما يوافق هذا الحديث الصحيح ، فقال   أبو بكر بن مردويه  في تفسيره : حدثنا   أحمد بن كامل بن خلف  حدثنا  محمد بن كامل بن خلف  حدثنا  محمد بن سعد  حدثنا أبي حدثنا عمي حدثنا أبي عن أبيه  عن   ابن عباس  في قوله تعالى : (  حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير      ) قال لما أوحى الجبار جل جلاله إلى  محمد   صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي ، فلما كشف عن قلوبهم فسألوه عما قال الله تعالى قالوا : الحق ، علموا أن الله تعالى لا يقول إلا حقا ، وأنه منجز ما وعد ، قال   ابن عباس     : وصوت الوحي كصوت الحديد على  الصفا   ، فلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم قالوا ماذا قال ربكم ، قالوا الحق هو العلي الكبير     .  
 [ ص: 489 ] وهذا إسناد معروف يروي به   ابن جرير   وابن أبي حاتم   وعبد بن حميد  وغيرهم التفسير وغيره عن   ابن عباس  ، وهو إسناد متداول بين أهل العلم وهم ثقات .  
وقال   عبد الله بن المبارك  ، حدثنا   بهز بن حكيم  عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "  لما نزل  جبرائيل   بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع أهل السماوات لانحطاطه ، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على  الصفا   فكلما مروا بأهل سماء فزع عن قلوبهم ، فيقولون يا  جبرائيل   بم أمرت ؟ فيقول كلام الله بلسان عربي     .  
وقد روينا في مسند   أبي يعلى الموصلي  ، حدثنا   شيبان بن فروخ  ، حدثنا  همام  حدثنا  القاسم بن عبد الواحد  ، قال حدثني   عبد الله بن عقيل بن أبي طالب  أن   جابر بن عبـد الله  حدثه ، قال  بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه " قال فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي فسرت إليه شهرا حتى أتيت  الشام   ، فإذا هو  عبد الله بن أنيس الأنصاري  ، فأرسلت إليه أن  جابرا  على الباب ، قال فرجع إلى الرسول ، فقال :   جابر بن عبد الله  ؟ فقلت : نعم ، قال فرجع الرسول فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديثا بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه ، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الله العباد أو قال يحشر الله الناس قال وأومأ بيده إلى  الشام   عراة غرلا بهما ، قلت ما بهما ؟ قال ليس معهم شيء ، قال : فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، قال : قلنا كيف هذا وإنما نأتي الله غرلا بهما ؟ قال بالحسنات والسيئات     " هذا حديث حسن جليل ،   وعبد الله بن محمد بن عقيل  صدوق حسن الحديث ، وقد احتج به غير واحد من الأئمة ، وتكلم فيه من قبل حفظه ، وهذا الضرب ينتفي من      [ ص: 490 ] حديثهم ما خالفوا فيه الثقات ، ورووا ما يخالف روايات الحفاظ وشذوا عنهم ، وأما إذا روى أحدهم ما شواهده أكثر من أن تحصر مثل هذا الحديث ، فلا ريب في قبول حديثه ، أما  القاسم بن عبد الواحد بن أيمن المكي  فحسن الحديث أيضا ، وقد احتج به   النسائي  مع تشدده في الرجال وأن له فيهم شرطا أشد من شرط  مسلم  ، وحسن  الترمذي  حديثه وذكره   ابن حبان  في كتاب الثقات .  
وقد روى هذا الحديث   الإمام أحمد  عن   يزيد بن هارون  عن   همام بن يحيى  بإسناده بطوله محتجا به على من رده ، وروى   البخاري  أوله في الصحيح مستشهدا به تعليقا ، ورواه في كتاب الأدب بطوله من حديث   همام بن يحيى  وقال في حديث واحد ، ورواه  الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي  في كتابه في الأحاديث المختارة ، وسمعت شيخ الإسلام  ابن تيمية  قدس الله روحه يقول : هي أصح من صحيح  الحاكم  ، وقال  الصريفيني     : شرطه فيها خير من شرط  الحاكم  ورواه  عبد الله بن أحمد  في السنة   والطبراني  في المعجم والسنة   وأبو بكر بن أبي عاصم  في السنة محتجين به ، فمن الناس سوى هؤلاء الأعلام سادات الإسلام ولا التفات إلى ما أعله به بعض  الجهمية   ظلما منه وهضما للحق ، حيث ذكر كلام المضعفين  لعبد الله بن عقيل   والقاسم بن محمد  دون من وثقهما وأثنى عليهما ، فيوهم الغر أنهما مجمع على ضعفهما لا يحتج بحديثهما ، ثم أعله بأن البخاري  لم يجزم به ، وإنما علقه تعليقا فقال : ويذكر عن   جابر بن عبد الله  ، وليس هذا تعليلا من   البخاري  له فقد جزم به في أول الكتاب حيث قال : ورحل   جابر بن عبد الله  في طلب حديث واحد شهرا ، ورواه كما ذكرنا في الأدب بإسناده وأعله بأن   البخاري  ومسلما  يحتجا  بابن عقيل  ، وهذه علة باردة باطلة ، كل أهل الحديث على بطلانها ، وأعله باضطراب ألفاظه ، ففي بعضها يقول : " فقدمت  الشام      " ، وفي بعضها " فينادي " بكسر الدال ، وفي بعضها " فينادى " بفتحها ، وفي بعضها " حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه " ، وفي بعضها " فما أحد يحفظه غيرك ، فأحببت أن تذاكرنيه " ، قال : وهذا يشعر أنه سمعه أيضا وأحب مذاكرة  عبد الله بن أنيس  له به ، قال : وفي بعضها رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها يسميه  بعبد الله بن أنيس     .  
ومن تأمل هذه العلل الباردة علم أنها من باب التعنت ، فهب أن هذا الحديث معلول أفيلزم من ذلك بطلان سائر الآثار الموقوفة والأحاديث المرفوعة ، ونصوص القرآن وكلام أئمة الإسلام كما ستراه إن شاء الله تعالى ، وقد رواه الحافظ  أبو عبد الله   [ ص: 492 ] محمد بن عبد الواحد المقدسي  من حديث   محمد بن المنكدر  عن  جابر  قال : بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من القصاص فذكر القصة إلى أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "  فإن الله يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلا بهما ، ثم ينادى بصوت رفيع غير فظيع يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، فيقول : أنا الديان لا تظالم اليوم ، أما وعزتي لا يجاورني اليوم ظلم ظالم ، ولو لطمة كف بكف أو يد على يد ، ألا وإن أشد ما أتخوف على أمتي من بعدي عمل قوم لوط ، فلترتقب أمتي العذاب إذا تكافأ النساء بالنساء والرجال بالرجال     " ورواه  تمام  في فوائده .  
ويكفي رواية   البخاري  في صحيحه مستشهدا به ، واحتج به في خلق أفعال العباد ، ورواه أئمة الإسلام في كتب السنة وما زال السلف يروونه ، ولم يسمع عن أحد من أئمة السنة أنه أنكره حتى جاءت  الجهمية   فأنكروه ، ومضى على آثارهم من اتبعهم في ذلك .  
وقال قال  عبد الله بن أحمد  في كتاب السنة : قلت لأبي يا أبت إنهم يقولون إن الله لم يتكلم بصوت ، فقال بلى تكلم بصوت .  
وقال   البخاري  في كتاب خلق أفعال العباد : ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيا من الصوت ، ويكره أن يكون رفيع الصوت  أو "  أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب     " ، وليس هذا لغير الله عز وجل ، قال : وفي هذا دليل أن  صوت الله لا يشبه أصوات الخلق      ; لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، ثم ساق حديث  جابر  أنه سمع  عبد الله بن أنيس  يقوله : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "  يحشر العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان . . .     " الحديث .  
ثم احتج بحديث  أبي سعيد  عن النبي صلى الله عليه وسلم "  يقول الله يوم القيامة : يا  آدم   ، فيقول لبيك ربنا وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . . .     " الحديث .  
 [ ص: 492 ] ثم احتج بحديث   عبد الله بن مسعود     "  إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان     " .  
فهذان إماما أهل السنة على الإطلاق :   أحمد بن حنبل   والبخاري  ، وكل أهل السنة والحديث على قولهما ، وقد صرح بذلك وحكاه إجماعا   حرب بن إسماعيل  صاحب  أحمد  وإسحاق  ، وصرح به   خشيش بن أصرم   النسائي  ،   ومحمد بن حاتم المصيصي  ،   وعبد الله بن الإمام أحمد   وأبو داود السجستاني  وابنه  أبو بكر     .  
وقد احتج   الإمام أحمد  بحديث   ابن مسعود  وغيره ، وأخبر أن المنكرين لذلك هم  الجهمية   ، فقال  عبد الله بن أحمد     : سألت أبي عن قوم يقولون : " لما كلم الله  موسى   لم يتكلم بصوت " ، فقال أبي : تكلم الله بصوت ، وروى إمام الأمة   محمد بن إسحاق بن خزيمة  من حديث   الشعبي  قال : أرواه عن  جابر  حديثا طويلا وفيه "  فبينا هم على ذلك إذ أتاهم نداء من قبل الرحمن عز وجل : عبادي ما كنتم تعبدون في الدنيا ؟ فيقول : أنت أعلم إياك نعبد ، فيأتيهم صوت لم يسمع الخلائق بمثله : عبادي صدقتم فقد رضيت عنكم ، فتقول الملائكة عند ذلك بالشفاعة ، فيقول المشركون : ما لنا من شافعين     " . وروى   ابن خزيمة  من حديث   محمد بن كعب القرظي  عن   أبي هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  يقبض الله تعالى الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ثم يهتف بصوته : من كان لي شريكا فليأت ، لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد ، فيقول : لله الواحد القهار ، ثم يزجر الخلائق زجرة أخرى فإذا هم بالساهرة . . .     " الحديث ، وقطعة من حديث الصور الطويل ، ولم يزل الأئمة يروونه ويحتجون به حتى حدثت  الجهمية      .  
وروى   ابن خزيمة  من حديث   نعيم بن حماد  ، حدثنا   الوليد بن مسلم  ، عن  عبد الرحمن بن زيد بن جابر  ، عن  أبي زكريا  عن   رجاء بن حيوة  عن  النواس بن سمعان  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  إذا أراد الله أن يوحي بالأمر فتكلم بالوحي . . .     " الحديث ، قال  ابن خزيمة : ابن أبي زكريا هو عبد الله     .  
وقال   الإمام أحمد     : حدثنا   عبد الرحمن بن محمد المحاربي  عن   الأعمش  عن  مسلم  عن  مسروق  عن  عبد الله  قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قال سكن عن قلوبهم ، نادى أهل السماء أهل      [ ص: 493 ] السماء : ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق ، قال كذا وكذا  ، رواه  عبد الله بن أحمد  في كتاب السنة عن أبيه وفي تفسير  شيبان  عن  قتادة  في تفسير قوله : (  فلما جاءها نودي أن بورك من في النار      ) قال صوت رب العالمين ، وذكره   ابن خزيمة  ، وروى  عبد الله بن أحمد  عن  نوف  قال : نودي  موسى   من  شاطئ الوادي   ، قال : من أنت الذي تناديني ؟ قال : أنا ربك الأعلى  ، وقال   الإمام أحمد     : حدثنا  إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه  حدثنا  عبد الصمد  قال :  سمعت   وهب بن منبه  قال : لما رأى  موسى   النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فذكر الحديث إلى أن قال : فنودي من الشجرة ، فقيل له يا  موسى   فأجاب سريعا ولا يدري من دعاه ، وما كان سرعة جوابه إلا استئناسا بالإنس ، فقال لبيك مرارا ، إني أسمع صوتك وأحس وجسك ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع  موسى   هذا علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تبارك وتعالى فأيقن به ، فقال كذلك أنت إلهي أسمع أم بكلام رسولك ؟ فقال : بل أنا الذي أكلمك فادن مني  ، الحديث قد رواه   عبد الرحمن بن حميد  في تفسيره   ويعقوب بن سفيان الفسوي     .  
وفي الصحيحين عن   أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "  إذا أحب الله عبدا نادى  جبرائيل   إن الله قد أحب فلانا فأحبه . . .     " الحديث ، والذي تعقله الأمم من النداء إنما هو الصوت المسموع كما قال الله تعالى : (  واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب      ) وقال : (  إن الذين ينادونك من وراء الحجرات      ) وهذا النداء هو رفع أصواتهم الذي نهى الله عنه المؤمنين وأثنى عليهم بغضها بقوله : (  إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله      ) الآية .  
وكل ما في القرآن العظيم من ذكر كلامه وتكليمه وأمره ونهيه دال على أنه تكلم      [ ص: 494 ] حقيقة لا مجازا ، وكذلك نصوص الوحي الخاص كقوله تعالى : (  إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح      ) .  
قال  الجارودي     : سمعت   الشافعي  يقول : أنا مخالف   ابن علية  في كل شيء حتى في قوله لا إله إلا الله ، أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم  موسى   من وراء حجاب ، وهو يقول : لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه  موسى      .  
وقد نوع الله تعالى هذه الصفة في إطلاقها عليه تنويعا يستحيل معه نفي حقائقها ، بل ليس في الصفات الإلهية أظهر من صفة الكلام والعلو والفعل والقدرة ، بل حقيقة الإرسال تبليغ كلام الرب تبارك وتعالى ، وإذا انتفت عنه حقيقة الكلام انتفت حقيقة الرسالة والنبوة ، والرب تبارك وتعالى يخلق بقوله وكلامه كما قال تعالى : (  إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون      ) فإذا انتفت  حقيقة الكلام   عنه انتفى الخلق ، وقد عاب الله آلهة المشركين بأنها لا تكلم ولا تكلم عابديها ولا ترجع إليهم قولا ،والجهمية   وصفوا الرب تبارك وتعالى بصفة هذه الآلهة ، وقد ضرب الله تعالى لكلامه واستمراره ودوامه المثل بالبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار الأرض كلها أقلام ، فيفنى المداد والأقلام ولا تنفد كلماته ، أفهذا صفة من لا يتكلم ولا يقوم به كلام ؟ فإذا كان كلامه وتكليمه ، وخطابه ونداؤه ، وقوله وأمره ، ونهيه ووصيته ، وعهده وإذنه ، وحكمه وأنباؤه ، وأخباره وشهادته كل ذلك مجاز لا حقيقة له بطلت الحقائق كلها ، فإن الحقائق إنما حقت بكلمات تكوينه (  ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون      ) فما حقت الحقائق إلا بقوله وفعله .  
				
						
						
