فصل
وأما رواية
الأثرم عن
أحمد أنه لا يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر ويعمل به ، فهذه رواية انفرد بها
الأثرم ، وليست في مسائله ، ولا في كتاب السنة ، وإنما حكاها القاضي أنه وجدها في كتاب معاني الحديث ،
والأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه بل
[ ص: 559 ] لعله بلغه عنه من واهم وهم عليه في لفظه ، فلم يرو عنه أحد من أصحابه ذلك ، بل المروي الصحيح عنه أنه جزم على الشهادة للعشرة بالجنة ، والخبر في ذلك خبر واحد ، ولعل توقفه عن الشهادة على سبيل الورع ، فكان يجزم بتحريم أشياء ، ويتوقف عن إطلاق لفظ تحريم عليها ، ويجزم بتحريم أشياء ويتوقف عن إطلاق لفظ الوجوب عليها تورعا ، بل يقول : أكره كذا وأستحب كذا ، وهذا كثير في أجوبته .
وقد قال في موضع : ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء ولا ننص الشهادة ، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة لصالح عمله ولخير أتاه ، إلا أن يكون في ذلك حديث فنقبله كما جاء على ما روي ولا ننص ، قال القاضي : ولا ننص الشهادة ، معناه عندي ولا نقطع على ذلك .
قال شيخ الإسلام : لفظ " ننص " هو المشهود عليه معناه لا نشهد على المعين ، وإلا فقد قال : نعلم أنه كما جاء ، وهذا يقتضي أنه يفيد العلم .
وأيضا فإن من أصله أنه يشهد للعشرة بالجنة للخبر الوارد ، وهو خبر واحد ، وقال أشهد وأعلم واحد ، وهذا دليل على أنه يشهد بموجب خبر واحد ، وقد خالفه
nindex.php?page=showalam&ids=16604ابن المديني وغيره .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16604ابن المديني يقولون : أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد العلم ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=3وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
وقال تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50إن أتبع إلا ما يوحى إلي وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم قالوا : فعلم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله ، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة فالكتاب القرآن ، والحكمة السنة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347528إني أوتيت الكتاب ومثله معه " فأخبر أنه
nindex.php?page=treesubj&link=21370أوتي السنة كما أوتي الكتاب ، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه ليقيم به حجته على العباد
[ ص: 560 ] إلى آخر الدهر ، وقالوا : فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذبا لم تكن من عند الله ولا كانت مما أنزله الله على رسوله وآتاه إياه تفسيرا لكتابه وتبيينا له ، وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذبا في نفس الأمر ، فإن السنة تجرى مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد ، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه ، فلو جاز أن تكون كذبا وغلطا لبطلت حجة الله على العباد ، ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسره : هذا في خبر واحد لا يفيد العلم فلا تقوم علي حجة بما لا يفيد العلم ، وهذا طرد هذا المذهب الفاسد ، وأطرد الناس له أبعدهم عن العلم والإيمان .
والذي جاء يقضي منه العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لا تفيد العلم ، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال ، ويزعمون أنها براهين عقلية .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية وقد قسم الأخبار إلى تواتر وآحاد فقال بعد ذكر التواتر : وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتوافر لفظه ولا معناه ، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له كخبر
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347529إنما الأعمال بالنيات " وخبر
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347530نهى عن بيع الولاء وهبته " وخبر
أنس nindex.php?page=hadith&LINKID=10347531دخل مكة على رأسه المغفر ، وكخبر
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347532لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " وكقوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347533يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وقوله :
[ ص: 561 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347534إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل " وقوله في المطلقة ثلاثا "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347535حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وقوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347536لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " وقوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347537إنما الولاء لمن أعتق " وقوله يعني
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347538فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر والأنثى " وأمثال ذلك ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة
محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين .
أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة ، والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية ، والشافعية والحنبلية مثل
السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية ، والشيخ
أبي حامد وأبي الطيب والشيخ أبي إسحاق من الشافعية ،
وابن خواز منداد وغيره من المالكية ، ومثل القاضي
وأبي يعلى وابن موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية ، ومثل
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبي إسحاق الاسفراييني nindex.php?page=showalam&ids=13428وابن فورك nindex.php?page=showalam&ids=15414وأبي إسحاق النظام من المتكلمين .
وإنما نازع في ذلك طائفة
nindex.php?page=showalam&ids=12605كابن الباقلاني ومن تبعه مثل
أبي المعالي nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي وابن عقيل ، وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12795أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره ، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم ، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة ، وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله
الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور ، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب ، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى سيف
nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي وإلى
الخطيب ، فإن علا سندهم صعدوا إلى
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي والجويني والباقلاني .
[ ص: 562 ] قال : وجميع أهل الحديث على ما ذكره
الشيخ أبو عمرو ، والحجة على قول الجمهور ، أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم ، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية ، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحد من المخبرين بمفرده ، ولا يجوز على المجموع ، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347539أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها . والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنونا بشروطها ، فإذا قويت صارت علوما ، وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات فاسدة .
قال أيضا فلا يجوز أن يكون في نفس الأمر كذبا على الله ورسوله وليس في الأمة من ينكره إذ هو خلاف ما وصفهم الله تعالى به .
فإن قيل : أما الجزم بصدقه فلا يمكن منهم ، وأما العمل به وهو الواجب عليهم وإن لم يكن صحيحا في الباطن ، وهذا سؤال
nindex.php?page=showalam&ids=12605ابن الباقلاني .
قلنا : أما الجزم بصدقه فإنه قد يحتف به من القرائن ما يوجب العلم ، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها ، فكيف إذا احتفت بالخبر ، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي أن العلم بمجرد الأخبار لا يحصل إلا من جهة العدد ، فلزمه أن يقول ما دون العدد لا يفيد أصلا ، وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه ، وأما العمل به فلو جاز أن يكون في الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لانعقد الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس الأمر ، وهذا باطل ، فإذا كان تلقي الأمة له يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه صدق مقبول فإجماع السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه ، فإنه لا يمكن أحد أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين ، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشارا لا تضبط أقوال جميعها .
قال : واعلم أن جمهور أحاديث
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره
الشيخ أبو عمرو ومن قبله من العلماء كالحافظ
أبي طاهر السلفي وغيره ، فإن ما تلقاه أهل
[ ص: 563 ] الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين ، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين ، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم ، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء ، كذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله ، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم ، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوالهم متبوعيهم .
فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص ، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم ، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به ألبتة ، فخبر
أبي بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات ، وعند
الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما ، وكذلك يعلمون بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، وعند
الجهمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك ، ويعلمون بالضرورة أن نبيهم صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة ، وعند
المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة قاطعون بصحتها عنه ، وغيرهم لا علم عنده بذلك ، والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند الجمهور العقلاء .
وأما خبر الواحد الذي أوجبت الشريعة تصديق مثله والعمل به بأن يكون خبر عدل معروف بالصدق والضبط والحفظ ، فهذا في إفادته للعلم قولان ، هما روايتان منصوصتان عن
أحمد :
أحدهما : إنه يفيد العلم أيضا وهو أحد الروايتين عن
مالك ، اختاره جماعة من أصحابه منهم
محمد بن خواز منداد ، واختاره جماعة من أصحاب
أحمد منهم
ابن أبي موسى وغيره ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=15166الحارث المحاسبي وهو قول جمهور
أهل الظاهر وجمهور أهل الحديث ، وعلى هذا فيحلف على مضمونه ويشهد به .
والقول الثاني : إنه لا يوجب العلم وهو قول جمهور أهل الكلام وأكثر المتأخرين من الفقهاء وجماعة من أهل الحديث ، وعلى هذا فلا يحلف على مضمونه ولا يشهد
[ ص: 564 ] به ، وقد حلف الإمام على كثير من مضمون كثير من الأخبار الآحاد حلف على البت ، وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين ، بل يقولون ذلك لأمر يرجع إلى المخبر وأمر يرجع إلى المخبر عنه وأمر يرجع إلى المخبر به ، وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ .
فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيهم كانوا أصدق الخلق لهجة ، وأعظمهم أمانة وأحفظهم لما يسمعونه ، وخصهم الله تعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم ، فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة ، ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة ، وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم أمرا معلوما لهم بالاضطرار ، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهم ، وحصول الثقة بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء .
فقياس خبر الصديق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياس في العالم ، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة وأشدهم تحريا للصدق والضبط حتى لا تعرف في جميع طوائف بني آدم أصدق لهجة ولا أعظم تحريا للصدق منهم ، وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق والفاروق nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس ، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرين ، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من أفراد الناس في عدم إفادة العلم ، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل .
وأما ما يرجع إلى المخبر عنه فإن الله سبحانه تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله ، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده فلا بد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته ، ولهذا
nindex.php?page=treesubj&link=25046فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد مماته وبين حاله للناس ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك : لو هم رجل أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب .
وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياتهم بما جعلهم به نكالا وعبرة حفظا لوحيه ودينه ، وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13890أبو القاسم البغوي حدثنا
بن عبد الحميد الحماني حدثنا
علي بن [ ص: 565 ] مسهر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16209صالح بن حيان عن
بريدة عن أبيه قال :
جاء رجل في جانب المدينة فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا ، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كذب عدو الله ، ثم أرسل رجلا فقال : إن وجدته حيا فاقتله فإن أنت وجدته ميتا فأحرقه بالنار ، فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار ، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13507أبو بكر بن مردويه من حديث
الوزعى عن
أبي سلمة عن
أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347541من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " وذلك أنه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض .
فالله سبحانه لم يقر من كذب عليه في حياته وفضحه ، وكشف ستره للناس بعد مماته .
وأما ما يرجع إلى المخبر به فإنه الحق المحض وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي فهو أصدق ، وأحق الحق بعد كلام الله ، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح ، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه ، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو البصيرة السليمة ، فبين الخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار والضوء والظلام ، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الصدق ، فكيف نسبته بالكذب ، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسنته ، ومن سواهم في عمى عن ذلك ، فإذا قالوا : أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منها العلم ، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم ، كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة .
وأما ما يرجع إلى المخبر فالمخبر نوعان : نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط ، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط
[ ص: 566 ] والخطأ فيما نقلوه إلى الأمة وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول ، وتلقته الأمة ، عنهم كذلك ، وقامت شواهد صدقهم فيه ، فهذا المخبر يقطع بصدق المخبر ويفيده خبره العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته ، ونوع لا علم لهم بذلك ، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك ، فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين ، فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه ، أفاد ذلك علما ضروريا بصحة تلك النسبة ، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ ، عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود أنه سأله رجل معدم فقير ما يغنيه ؟ فأعطاه ذلك ، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير ، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه وكثرت رواياتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة ، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة .
فَصْلٌ
وَأَمَّا رِوَايَةُ
الْأَثْرَمِ عَنْ
أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَبَرِ وَيَعْمَلُ بِهِ ، فَهَذِهِ رِوَايَةٌ انْفَرَدَ بِهَا
الْأَثْرَمُ ، وَلَيْسَتْ فِي مَسَائِلِهِ ، وَلَا فِي كِتَابِ السُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا حَكَاهَا الْقَاضِي أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي كِتَابِ مَعَانِي الْحَدِيثِ ،
وَالْأَثْرَمُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ
[ ص: 559 ] لَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُ مِنْ وَاهِمٍ وُهِمَ عَلَيْهِ فِي لَفْظِهِ ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ ، بَلِ الْمَرْوِيُّ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنَّهُ جَزَمَ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ ، وَالْخَبَرُ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ ، وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ ، فَكَانَ يَجْزِمُ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ ، وَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ تَحْرِيمٍ عَلَيْهَا ، وَيَجْزِمُ بِتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ وَيَتَوَقَّفُ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا تَوَرُّعًا ، بَلْ يَقُولُ : أَكْرَهُ كَذَا وَأَسْتَحِبُّ كَذَا ، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَجْوِبَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ : وَلَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِذَنْبٍ عَمِلَهُ وَلَا لِكَبِيرَةٍ أَتَاهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ فَنُصَدِّقَهُ وَنَعْلَمَ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ وَلَا نَنُصَّ الشَّهَادَةَ ، وَلَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِصَالِحٍ عَمِلَهُ وَلِخَيْرٍ أَتَاهُ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فَنَقْبَلَهُ كَمَا جَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَا نَنُصَّ ، قَالَ الْقَاضِي : وَلَا نَنُصُّ الشَّهَادَةَ ، مَعْنَاهُ عِنْدِي وَلَا نَقْطَعَ عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : لَفْظُ " نَنُصَّ " هُوَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ لَا نَشْهَدُ عَلَى الْمُعَيَّنِ ، وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ : نَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ ، وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ ، وَقَالَ أَشْهَدُ وَأَعْلَمُ وَاحِدٌ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَشْهَدُ بِمُوجَبِ خَبَرِ وَاحِدٍ ، وَقَدْ خَالَفَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16604ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16604ابْنُ الْمَدِينِيِّ يَقُولُونَ : أَخْبَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُفِيدُ الْعِلْمَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=3وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
وَقَالَ تَعَالَى آمِرًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ قَالُوا : فَعُلِمَ أَنَّ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَكُلُّ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=113وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ ، وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347528إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=21370أُوتِيَ السُّنَّةَ كَمَا أُوتِيَ الْكِتَابَ ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ ضَمِنَ حِفْظَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ لِيُقِيمَ بِهِ حُجَّتَهُ عَلَى الْعِبَادِ
[ ص: 560 ] إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ، وَقَالُوا : فَلَوْ جَازَ عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا لَمْ تَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا كَانَتْ مِمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآتَاهُ إِيَّاهُ تَفْسِيرًا لِكِتَابِهِ وَتَبْيِينًا لَهُ ، وَكَيْفَ تَقُومُ حُجَّتُهُ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ تُجْرَى مَجْرَى تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ الْمُرَادِ ، فَهِيَ الَّتِي تُعَرِّفُنَا مُرَادَ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ ، فَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ كَذِبًا وَغَلَطًا لَبَطَلَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ، وَلَقَالَ كُلُّ مَنِ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِسُنَّةٍ تُبَيِّنُ الْقُرْآنَ وَتُفَسِّرُهُ : هَذَا فِي خَبَرِ وَاحِدٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا تَقُومُ عَلَيَّ حُجَّةٌ بِمَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَهَذَا طَرْدُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ ، وَأَطْرَدُ النَّاسِ لَهُ أَبْعَدُهُمْ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ .
وَالَّذِي جَاءَ يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى الْخَيَالَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَالشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَلَقَّوْهَا عَنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا بَرَاهِينُ عَقْلِيَّةٌ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَقَدْ قَسَّمَ الْأَخْبَارَ إِلَى تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوَاتُرِ : وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَا لَا يَرْوِيهِ إِلَّا الْوَاحِدُ الْعَدْلُ وَنَحْوُهُ ، وَلَمْ يَتَوَافَرْ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ ، وَلَكِنْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَمَلًا بِهِ أَوْ تَصْدِيقًا لَهُ كَخَبَرِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347529إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَخَبَرِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347530نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ " وَخَبَرِ
أَنَسٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=10347531دَخَلَ مَكَّةَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ، وَكَخَبَرِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347532لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا " وَكَقَوْلِهِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347533يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " وَقَوْلِهِ :
[ ص: 561 ] "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347534إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ " وَقَوْلِهِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347535حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " وَقَوْلِهِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347536لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ " وَقَوْلِهِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347537إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " وَقَوْلِهِ يَعْنِي
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنَ عُمَرَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347538فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى " وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ، فَهَذَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ .
أَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ ، وَأَمَّا الْخَلَفُ فَهَذَا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ مِثْلِ
السَّرَخْسِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالشَّيْخِ
أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي الطَّيِّبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ،
وَابْنِ خُوَازِ مِنْدَادَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَمِثْلِ الْقَاضِي
وَأَبِي يَعْلَى وَابْنِ مُوسَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَنْبَلِيَّةِ ، وَمِثْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أَبِي إِسْحَاقَ الِاسْفَرَايِينِيِّ nindex.php?page=showalam&ids=13428وَابْنِ فُورَكَ nindex.php?page=showalam&ids=15414وَأَبِي إِسْحَاقَ النَّظَّامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ .
وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ
nindex.php?page=showalam&ids=12605كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِثْلُ
أَبِي الْمَعَالِي nindex.php?page=showalam&ids=14847وَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=12795أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَصَحَّحَهُ وَاخْتَارَهُ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ كَثْرَةَ الْقَائِلِينَ بِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِمُوجَبِ الْحُجَّةِ الصَّحِيحَةِ ، وَظَنَّ مَنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ وَلَيْسَ لَهُمْ بِهَذَا الْبَابِ خِبْرَةٌ تَامَّةٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ
الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو انْفَرَدَ بِهِ عَنِ الْجُمْهُورِ ، وَعُذْرُهُمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَى مَا يَجِدُونَهُ مِنْ كَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابْنِ الْحَاجِبِ ، وَإِنِ ارْتَفَعُوا دَرَجَةً صَعَدُوا إِلَى سَيْفِ
nindex.php?page=showalam&ids=14552الْآمِدِيِّ وَإِلَى
الْخَطِيبِ ، فَإِنْ عَلَا سَنَدُهُمْ صَعِدُوا إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيِّ وَالْجُوَيْنِيِّ وَالْبَاقِلَانِيِّ .
[ ص: 562 ] قَالَ : وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو ، وَالْحُجَّةُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ ، أَنَّ تَلَقِّيَ الْأُمَّةِ لِلْخَبَرِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى مُوجِبِ عُمُومٍ أَوْ مُطْلَقٍ أَوِ اسْمٍ حَقِيقَةً أَوْ عَلَى مُوجِبِ قِيَاسٍ فَإِنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَوْ جُرِّدَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ بِالنِّسْبَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ يَجُوزُ الْخَطَأُ وَالْكَذِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُخْبِرِينَ بِمُفْرَدِهِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمَجْمُوعِ ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا وَرَأْيِهَا وَرُؤْيَاهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347539أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ " فَجُعِلَ تَوَاطُؤُ الرُّؤْيَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهَا . وَالْآحَادُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ تَكُونُ ظُنُونًا بِشُرُوطِهَا ، فَإِذَا قُوِّيَتْ صَارَتْ عُلُومًا ، وَإِذَا ضَعُفَتْ صَارَتْ أَوْهَامًا وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً .
قَالَ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ يُنْكِرُهُ إِذْ هُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي الْبَاطِنِ ، وَهَذَا سُؤَالُ
nindex.php?page=showalam&ids=12605ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ .
قُلْنَا : أَمَّا الْجَزْمُ بِصِدْقِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْتَفِ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، إِذِ الْقَرَائِنُ الْمُجَرَّدَةُ قَدْ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِهَا ، فَكَيْفَ إِذَا احْتَفَتْ بِالْخَبَرِ ، وَالْمُنَازِعُ بَنَى عَلَى هَذَا أَصْلَهُ الْوَاهِيَ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِ الْأَخْبَارِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ مَا دُونَ الْعَدَدِ لَا يُفِيدُ أَصْلًا ، وَهَذَا غَلَطٌ خَالَفَهُ فِيهِ حُذَّاقُ أَتْبَاعِهِ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ كَذِبًا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ لَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا هُوَ كَذِبٌ وَخَطَأٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ، فَإِذَا كَانَ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ صِدْقٌ مَقْبُولٌ فَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ أَوْلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ إِلَّا فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَشَرَتِ انْتِشَارًا لَا تُضْبَطُ أَقْوَالُ جَمِيعِهَا .
قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَحَادِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا ذَكَرَهُ
الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْحَافِظِ
أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ مَا تَلَقَّاهُ أَهْلُ
[ ص: 563 ] الْحَدِيثِ وَعُلَمَاؤُهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ مُحَصِّلٌ لِلْعِلْمِ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، كَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ بِهَا دُونَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّحَاةِ وَالْأَطِبَّاءِ ، كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى صِدْقِ الْحَدِيثِ وَعَدَمِ صِدْقِهِ إِلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ ، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْعَالِمُونَ بِأَحْوَالِ نَبِيِّهِمْ ، الضَّابِطُونَ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُعْتَنُونَ بِهَا أَشَدَّ مِنْ عِنَايَةِ الْمُقَلِّدِينَ بِأَقْوَالِهِمْ مَتْبُوعِيهِمْ .
فَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوَاتُرِ يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ ، فَيَتَوَاتَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِغَيْرِهِمْ فَضْلًا أَنْ يَتَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ ، فَأَهْلُ الْحَدِيثِ لِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَضَبْطِهِمْ لِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ مِمَّا لَا شُعُورَ لِغَيْرِهِمْ بِهِ أَلْبَتَّةَ ، فَخَبَرُ
أَبِي بَكْرٍ nindex.php?page=showalam&ids=2وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ nindex.php?page=showalam&ids=32وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَحْوِهِمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْجَازِمَ الَّذِي يَلْتَحِقُ عِنْدَهُمْ بِقِسْمِ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَعِنْدَ
الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَا يُفِيدُ عِلْمًا ، وَكَذَلِكَ يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَعِنْدَ
الْجَهْمِيَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، وَيَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ خُرُوجِ قَوْمٍ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ ، وَعِنْدَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ جَازِمُونَ بِأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَاطِعُونَ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ ، وَغَيْرُهُمْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ .
وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ تَصْدِيقَ مِثْلِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرَ عَدْلٍ مَعْرُوفٍ بِالصِّدْقِ وَالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ ، فَهَذَا فِي إِفَادَتِهِ لِلْعِلْمِ قَوْلَانِ ، هُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ
أَحْمَدَ :
أَحَدُهُمَا : إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَيْضًا وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ
مَالِكٍ ، اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ
مُحَمَّدُ بْنُ خُوَازِ مِنْدَادَ ، وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
أَحْمَدَ مِنْهُمُ
ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ ، وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15166الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ
أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَيَشْهَدُ بِهِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْلِفُ عَلَى مَضْمُونِهِ وَلَا يَشْهَدُ
[ ص: 564 ] بِهِ ، وَقَدْ حَلَفَ الْإِمَامُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَضْمُونِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ حَلَفَ عَلَى الْبَتِّ ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَجْعَلُونَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِمُخْبِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْمُخْبِرِينَ ، بَلْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ بِهِ ، وَأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ الْمُبَلِّغِ .
فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ بَلَّغُوا الْأُمَّةَ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ كَانُوا أَصْدَقَ الْخَلْقِ لَهْجَةً ، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَحْفَظَهُمْ لِمَا يَسْمَعُونَهُ ، وَخَصَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَهُمْ ، فَكَانَتْ طَبِيعَتُهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ ، ثُمَّ ازْدَادُوا بِالْإِسْلَامِ قُوَّةً فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ ، وَكَانَ صِدْقُهُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعَدَالَتُهُمْ وَضَبْطُهُمْ وَحِفْظُهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَمْرًا مَعْلُومًا لَهُمْ بِالِاضْطِرَارِ ، كَمَا يَعْلَمُونَ إِسْلَامَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ وَجِهَادَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِحَالِ الْقَوْمِ يَعْلَمُ أَنَّ خَبَرَ الصِّدِّيقِ وَأَصْحَابِهِ لَا يُقَاسُ بِخَبَرِ مَنْ عَدَاهُمْ ، وَحُصُولُ الثِّقَةِ بِخَبَرِهِمْ فَوْقَ الثِّقَةِ وَالْيَقِينِ بِخَبَرِ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ .
فَقِيَاسُ خَبَرِ الصِّدِّيقِ عَلَى خَبَرِ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ مِنْ أَفْسَدِ قِيَاسٍ فِي الْعَالَمِ ، وَكَذَلِكَ الثِّقَاتُ الْعُدُولُ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُمْ هُمْ أَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَشَدُّهُمْ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ وَالضَّبْطِ حَتَّى لَا تُعْرَفَ فِي جَمِيعِ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ أَصْدَقُ لَهْجَةً وَلَا أَعْظَمُ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا الْمُتَكَلِّمُونَ أَهْلُ ظُلْمٍ وَجَهْلٍ يَقِيسُونَ خَبَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ nindex.php?page=showalam&ids=34وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِأَخْبَارِ آحَادِ النَّاسِ ، مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ الْمُبِينِ بَيْنَ الْمُخْبِرِينَ ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ سَوَّى بَيْنَ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ فِي عَدَمِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْفَضْلِ .
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَكَفَّلَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ الْأَوَّلُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُهُ وَبَيِّنَاتُهُ ، وَلِهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=25046فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَبَيَّنَ حَالَهُ لِلنَّاسِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16008سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16418عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : لَوْ هَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ فُلَانٌ كَذَّابٌ .
وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِمْ بِمَا جَعَلَهُمْ بِهِ نَكَالًا وَعِبْرَةً حِفْظًا لِوَحْيِهِ وَدِينِهِ ، وَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13890أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا
بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ [ ص: 565 ] مُسْهِرٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16209صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ
بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :
جَاءَ رَجُلٌ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِيكُمْ بِرَأْيِي فِي أَمْوَالِكُمْ وَفِي كَذَا وَكَذَا ، وَكَانَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَبَعَثَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ رَجُلًا فَقَالَ : إِنْ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاقْتُلْهُ فَإِنْ أَنْتَ وَجَدْتَهُ مَيِّتًا فَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ ، فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ لُدِغَ فَمَاتَ فَحَرَقَهُ بِالنَّارِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ "
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=13507أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ
الْوَزْعَى عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أُسَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347541مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " وَذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ رَجُلًا فَكَذَبَ عَلَيْهِ فَوُجِدَ مَيِّتًا قَدِ انْشَقَّ بَطْنُهُ وَلَمْ تَقْبَلْهُ الْأَرْضُ .
فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُقِرَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَفَضَحَهَ ، وَكَشَفَ سِتْرَهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ مَمَاتِهِ .
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبَرِ بِهِ فَإِنَّهُ الْحَقُّ الْمَحْضُ وَهُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَلَامُهُ وَحْيٌ فَهُوَ أَصْدَقُ ، وَأَحَقُّ الْحَقِّ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ ، فَلَا يُشْتَبَهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ عَلَى ذِي عَقْلٍ صَحِيحٍ ، بَلْ عَلَيْهِ مِنَ النُّورِ وَالْجَلَالَةِ وَالْبُرْهَانِ مَا يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ ، وَالْحَقُّ عَلَيْهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُبْصِرُهُ ذُو الْبَصِيرَةِ السَّلِيمَةِ ، فَبَيْنَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ عَنْهُ مِنَ الْفَرْقِ كَمَا بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالضَّوْءِ وَالظَّلَامِ ، وَكَلَامُ النُّبُوَّةِ مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ الصِّدْقِ ، فَكَيْفَ نِسْبَتُهُ بِالْكَذِبِ ، وَلَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارِهِ وَسُنَّتِهِ ، وَمَنْ سِوَاهُمْ فِي عَمًى عَنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا قَالُوا : أَخْبَارُهُ وَأَحَادِيثُهُ الصَّحِيحَةُ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُمْ مُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْهَا الْعِلْمَ ، فَهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، كَاذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِ فَالْمُخْبِرُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ لَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَحَرِّيهِمْ لِلصِّدْقِ وَالضَّبْطِ ، وَكَوْنِهِمْ أَبْعَدَ خَلْقِ اللَّهِ عَنِ الْكَذِبِ وَعَنِ الْغَلَطِ
[ ص: 566 ] وَالْخَطَأِ فِيمَا نَقَلُوهُ إِلَى الْأُمَّةِ وَتَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِالْقَبُولِ ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ ، عَنْهُمْ كَذَلِكَ ، وَقَامَتْ شَوَاهِدُ صِدْقِهِمْ فِيهِ ، فَهَذَا الْمُخْبِرُ يَقْطَعُ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ وَيُفِيدُهُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ لِمَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ وَسِيرَتِهِ ، وَنَوْعٌ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمُخْبِرِينَ مَا عِنْدَ أُولَئِكَ ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يُفِيدُهُمْ خَبَرُهُمُ الْيَقِينَ ، فَإِذَا انْضَمَّ عَمَلُ الْمُخْبِرِ وَعِلْمُهُ بِحَالِ الْمُخْبِرِ وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْخَبَرِ إِلَيْهِ ، أَفَادَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِصِحَّةِ تِلْكَ النِّسْبَةِ ، وَهَذَا فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ رَجُلٍ مُبْرَزٍ فِي الصِّدْقِ وَالتَّحَفُّظِ ، عَنْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِغَايَةِ الْإِحْسَانِ وَالْجُودِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مُعْدِمٌ فَقِيرٌ مَا يُغْنِيهِ ؟ فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ ، وَظَهَرَتْ شَوَاهِدُ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْفَقِيرِ ، فَكَيْفَ إِذَا تَعَدَّدَ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ وَكَثُرَتْ رِوَايَاتُهُمْ وَأَحَادِيثُهُمْ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَعَطَايَا مُتَنَوِّعَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ .