الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه السابع عشر : أن المعلومات المعانية التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف المعلومات التي تدرك بالحس والعقل ، بل لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه ، ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر ، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة والمعلومات التي تدرك بالحس ، وهذا حجة من فضل السمع على البصر ، ورجح آخرون البصر لقوة إدراكه ، وجزم بأنه يدركه ، وبعده من الغلط ، وفصل النزاع بينهما أن ما يدرك بالسمع أعم وأشمل ، وما يدرك بالبصر أتم وأكمل .

والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحس نسبة المحسوس إليها كقطرة بحر ، ولا سبيل إلى العلم بها إلا الخبر الصادق ، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء أنبأهم من أنباء الغيب بما يشاء ، وأطلعهم منها على ما لم يطلع عليه غيرهم ، كما قال تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) [ ص: 121 ] وقال تعالى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) وقال تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ) فهو سبحانه يصطفي من يطلعه من أنباء الغيب على ما لم يطلع عليه غيره ، وكذلك سمي ( نبيا ) من الإنباء ، وهو الإخبار ، لأنه مخبر من جهة الله ومخبر عنه فهو منبأ ، ومنبئ ، وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم بل ولا أكثره ، ولهذا كان أكمل الأمم علما أتباع الرسل وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم النجوم والهندسة ، وعلم الكم المتصل والمنفصل ، وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها ، ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم بها وآثروها على علوم الرسل ، وهي كما قال الواقف على نهايتها : " ظنون كاذبة ، وإن بعض الظن إثم " ، وهي علوم غير نافعة ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع ، وإن نفعت فنفعها بالنسبة إلى علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها .

فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل طلبا وخبرا ، فهو العلم المزكي للنفوس المكمل للفطر المصحح للعقول الذي خصه الله باسم العلم ، وسمى ما عارضه ظنا لا يغني من الحق شيئا وخرصا وكذبا ، فقال تعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ) وشهد لأهله أنهم أولو العلم فقال سبحانه وتعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ) وقال تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) والمراد بهم أولو العلم بما أنزله على رسله ليس المراد بهم أولي العلم بالمنطق والفلسفة وفروعها ، وقال تعالى : ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ) فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة ، وقال تعالى : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ) أي أنزله وفيه علمه الذي لا يعلمه البشر ، فالباء للمصاحبة ، مثل قوله : [ ص: 122 ] ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) أي أنزل وفيه علم الله ، وذلك من أعظم البراهين على صدق نبوة من جاء به .

ولم يصنع شيئا من قال : إن المعنى : أنزله وهو يعلمه ، وهذا وإن كان حقا فإن الله يعلم كل شيء ، فليس في ذلك دليل وبرهان على صحة الدعوة ، فإن الله يعلم الحق والباطل ، بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمنا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه الله وأعلمه به فإن هذا من أعظم أعلام النبوة والرسالة ، وقال فيما عارضه من الشبه الفاسدة التي يسميها أربابها : قواطع عقلية : ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) وقال تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) وقال لمن أنكر المعاد بعقله : ( وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) والظن الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوص الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الراجح ، بل هو كذب الحديث ، وقال : ( قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون ) .

وأنت إذا تأملت ما عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيت كله خرصا ، وعلمت أنهم هم الخراصون ، وأن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحي على الأنبياء والمرسلين وهو الذي أقام الله به حجته ، وهدى به أنبياءه ورسله وأتباعهم وأثنى عليهم فقال : ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) وقال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) وقال تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) فهذه النعمة والتزكية إنما هي لمن عرف زعم أن ذلك مخالف لصريح العقل ، وأن العقول مقدمة عليه ، والله المستعان .

الثامن عشر : أن العقل تحت حجر الشرع فيما يطلبه ويأمر به ، وفيما يحكم به [ ص: 123 ] ويخبر عنه ، فهو محجور عليه في الطلب والخبر ، وكما أن من عارض أمر الرسل بعقله لم يؤمن لهم وبما جاءوا به ، فكذلك من عارض خبرهم بعقله ، ولا فرق بين الأمرين أصلا ، يوضحه :

أن الله سبحانه حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم ، أما الأول ففي قوله : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ) فعارضوا تحريمه للربا بعقولهم التي سوت بين الربا والبيع ، فهذا معارضة النص بالرأي ، ونظير ما عارضوا به تحريم الميتة من قياسها على المذكاة وقالوا : تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ، وفي ذلك أنزل الله : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) وعارضوا أمره بتحويل القبلة وقالوا : إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركت الحق ، وإن كانت باطلا فقد كنت على باطل ، وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس عدو الله ، فإنه أول من عارض أمر الله بعقله ، وزعم أن العقل يقتضي خلافه .

وأما الثاني وهو معارضة خبره بالعقل فكما حكى الله سبحانه عن منكري المعاد : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ) وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم ، وعارضوا أخباره عن النبوات بعقولهم وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم ، وعارضوا أدلة نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم بعقولهم فقالوا : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وأنت إذا صغت هذه المعارضة صوغا مزخرفا وجدتها من جنس معارضة المعقول للمنقول .

وكذلك قولهم : ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) أي لو كان رسولا لخالق السماوات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في المعيشة ولأغناه عن أكل الطعام ولأرسل معه ملكا من الملائكة أو ألقى إليه كنزا يغنيه عن طلب الكسب .

[ ص: 124 ] وعارضوا شرعه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضة عقلية ، واستندوا فيها إلى القدر ، فقال تعالى : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) وحكى مثل هذه المعارضة في سورة النحل وفي سورة الزخرف ، وإذا تأملتها حق التأمل رأيتها أقوى بكثير من معارضة آيات الصفات بعقولهم ، فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله للكائنات والمشيئة ثابتة في نفس الأمر ، والنفاة عارضوا بأصول فاسدة هم وضعوها من تلقاء أنفسهم ، أو تلقوه عن أعداء الرسل من الصابئة والمجوس والفلاسفة ، وهي خيالات فاسدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية