الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الحادي والثلاثون : أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة ، فهو أمل من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه ، فإنه سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين جملتين : إحداهما : قوله : ( أنا خير منه ) فهذه هي الصغرى ، والكبرى محذوفة تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول ، وذلك سند المقدمة الأولى ، وهو أيضا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال : ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) المقدمة الثانية كلها معلومة ، أي : ومن خلق من نار خير ممن خلق من طين ، فهما قياسان متداخلان ، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة ، فالقياس الأول هكذا : أنا خير منه ، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه ، وهذا من الشكل الأول ، والقياس الثاني هكذا : خلقتني من نار وخلقته من طين ، والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين ، فنتيجة هذا القياس العقلي : أنا خير منه ، ونتيجة الأول : فلا ينبغي أن أسجد له ، وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم التي عارضوا بها الوحي ، والكل باطل .

[ ص: 157 ] وقد اعتذر أتباع الشيخ أبي مرة بأعذار : منها : أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل ، ومنها : أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله : ( اسجدوا ) لا عموم له ، فإن الضمائر ليست من صيغ العموم ، ومنها : أنه وإن كان اللفظ عاما فإنه خصه بالقياس المذكور ، ومنها : أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب بل حمله على الاستحباب لأنه المتيقن ، أو على الرجحان دفعا للاشتراك والمجاز ، ومنها : أنه حمله على التراخي ولم يحمله على الفور ، ومنها : أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره ، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه .

وبالله تأمل هذه التأويلات ، وقابل بينها وبين كثير من التأويلات التي يذكرها كثير من الناس ، وفي بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه ، ولهم في ذلك تصانيف ، وكان بشار ابن الشاعر الأعمى على هذا المذهب ، ولهذا يقول في قصيدته :

الأرض مظلمة سوداء معتمة والنار معبودة مذ كانت النار



ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل ، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضاته بالمعقول أوحى إلى تلاميذه وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارضون بها الوحي ، وأوهم أصحابه أنها قواطع عقلية ، وقال : إن قدمتم النقل عليها فسدت عقولكم : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وقال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [ ص: 158 ] الوجه الثاني والثلاثون : في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به بالوحي وذلك من وجوه :

أحدها : أنه قياس في مقابلة النص ، والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياسا باطلا ، ويسمى قياسا إبليسيا ، فإنه يتضمن معارضة الحق بالباطل ، ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته ، وقد بينا فيما تقدم أنه ما عارض أحد الوحي بعقله إلا أفسد الله عليه عقله حتى يقول : ما يضحك العقلاء .

الثاني : أن قوله : ( أنا خير منه ) كذب ، ومستنده في ذلك باطل ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادة على مادة تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى ، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها ، وهذا من كمال قدرته ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوحا والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، أفضل من الملائكة ، ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة ، وإن كانت مادتهم نورا ومادة البشر ترابا ، فالتفضيل ليس بالمواد والأصول ، ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خيرا وأفضل عند الله ممن ليس مثلهم من قريش وبني هاشم .

وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى ، وهي التي أبطلها الله تعالى بقوله : ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس مؤمن تقي ، وفاجر شقي " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض [ ص: 159 ] على أسود ، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ، الناس من آدم وآدم من تراب " فانظر إلى سريان هذه النكتة الإبليسية في نفوس أكثر الناس من تفضيلهم بمجرد الأنساب والأصول .

الثالث : أن ظنه أن النار خير من التراب باطل ، مستنده ما فيها من الإضاءة والخفة ، وما في التراب من الثقل والظلمة ، ونسي الشيخ ما في النار من الطيش والخفة ، وطلب العلو ، والإفساد بالطبع ، حتى لو وقع منها شواظ بقدر الحبة في مدينة عظيمة لأفسدها كلها ومن فيها ، بل التراب خير من النار وأفضل من وجوه متعددة : منها : أن طبعه السكون والرزانة ، والنار بخلافه ، ومنها : أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات ، والنار بخلافه ، ومنها : أنه لا يمكن لأحد أن يعيش بدونه ودون ما خلق منه البتة ، ويمكنه أن يعيش برهة بلا نار ، قالت عائشة : " كان يمر بنا الشهر والشهران ما يوقد في بيوتنا نار ولا نرى نارا " قال لها عروة : فما عيشكم ؟ قالت : " الأسودان : التمر والماء " ومنها : أن الأرض تؤدي إليك بما فيها من البركة أضعاف أضعاف ما تودعه من الحب والنوى ، وتربيه لك وتغذيه وتنميه ، والنار تفسده عليك وتمحق بركته ، ومنها : أن الأرض مهبط وحي الله ومسكن رسله وأنبيائه وأوليائه ، وكفاتهم أحياء وأمواتا ، والنار مسكن أعدائه ومأواهم ، ومنها : أن في الأرض بيته الذي جعله إماما للناس وقياما لهم ، وجعل حجه محطا لأوزارهم ، ومكفرا لسيئاتهم ، وجالبا لهم مصالح معاشهم ومعادهم ، ومنها : أن النار طبعها العلو والفساد ، والله لا يحب المستكبرين ولا يحب المفسدين ، والأرض طبعها الخشوع والإخبات ، والله يحب المخبتين الخاشعين .

وقد ظهر بخلق إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى والرسل من المادة الأرضية ، وخلق إبليس وجنوده من المادة النارية ، نعم وخلق من المادة الأرضية الكفار والمشركين ، ومن المادة النارية صالحو الجن ، ولكن ليس في هؤلاء مثل إبليس ، وليس في أولئك مثل الرسل ، فعلم الخير من المادة الأرضية ، وعلم الشر من المادة النارية .

[ ص: 160 ] ومنها : أن النار لا تقوم بنفسها بل لا بد لها من محل تقوم به لا تستغني عنه ، وهي محتاجة إلى المادة الترابية في قوامها وتأثيرها ، والأرض قائمة بنفسها لا تحتاج إلى محل تقوم به ، ولا تفتقر في قوامها ونفعها إلى النار ، ومنها : أن التراب يفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها ، وإن علت عليه ، ومنها : أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها وتحيا بها وتخرج زينتها وأقواتها وتشكر ربها ، وتنزل على النار فتأباها وتطفئها وتمحوها وتذهب بها ، فبينها وبين الرحمة معاداة ، وبين الأرض وبين الرحمة موالاة ، ومنها : أن النار تطفأ عند التكبير وتضمحل عند ذكر كبرياء الرب ، ولهذا يهرب المخلوق منها عند الأذان حتى لا يسمعه ، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به وتشهد به لصاحبه يوم القيامة ، ويكفي في فضل المخلوق من الأرض أن الله تعالى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، فهل حصل للمخلوق من النار واحدة من هذه ؟ .

فقد تبين لك حال هذه المعارضة العقلية للسمع وفسادها من هذه الوجوه ، وأكثر منها ، وهي من شيخ القوم ورئيسهم ومعلمهم الأول ، فما الظن بمعارضة التلامذة ؟

ونحن نقول قولا نقدم بين يديه مشيئة الله وحوله والاعتراف بمنته علينا وفضله لدينا ، وإنه محض منته وجوده وفضله ، فهو المحمود أولا وآخرا على توفيقنا له وتعليمنا إياه :

إن كل شبهة من شبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم ، وإن مد الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابا كبيرا ، ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ، ويقوم به تبلغ إليه كباد الإبل اقتدينا في السير إليه بموسى عليه السلام في سفره إلى الخضر ، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أنيس لسماع حديث واحد ، ولكن زهد الناس في عالم قومه ; وقد قام قبلنا بهذا الأمر من برز على أهل الأرض في عصره وفي أعصار قبله فأدرك من قبله وحيدا ; وسبق من بعده سبقا بعيدا .

الوجه الثالث والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء وأنه لا سمي له ولا كفء له ، وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه [ ص: 161 ] المخلوقين ، واستحق بقيامها أن يكون ( ليس كمثله شيء ) وهكذا كونه ليس له سمي ، أي : مثيل يساميه في صفاته وأفعاله ، ولا من يكافيه فيها ، ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين ، ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه ، وكونه يمنته أو يسرته ، أو أمامه أو وراءه ، لكان كل عدم مثلا له في ذلك ، فيكون قد نفى عن نفسه مماثلة الموجودات ، وأثبت لها مماثلة المعدومات ، فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض ، فإن المحض لا مثل له ولا كفء ولا سمي ، فلو كان المراد نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه ، لكان ذلك وصفا له بغاية العدم ، فهذا النفي واقع على العدم المحض ، وعلى من كثرت أوصاف كماله حتى تفرد بذلك الكمال ، فلم يكن له شبيه في كماله ولا سمي ولا كفء .

فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعا ، وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا فلا يفعل فعلا ، ولا وجه له ، ولا يد ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يعلم ، ولا يقدر ، تحقيقا لمعنى : ( ليس كمثله شيء ) وقال إخوانكم من الملاحدة : ليس له ذات أصلا ، تحقيقا لهذا النفي ، وقال غلاتهم : لا وجود له ، تحقيقا لهذا النفي ، وأما الرسل وأتباعهم فإنهم قالوا : إن الله حي وله حياة ، وليس كمثله شيء في حياته ، وهو قوي وله القوة وليس كمثله شيء في قوته ( وهو السميع البصير ) يسمع ويبصر ، وليس كمثله شيء في سمعه وبصره ، ومتكلم ، وله يدان ، ومستو على عرشه ، وليس له في هذه الصفات مثل ، فهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات صفات الكمال ، فإنه مدح له وثناء أثنى به على نفسه ، والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا يكون كمالا له ، بل هو أنقص النقص ، وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) لكمال حياته وقيوميته ، وقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) لكمال غناه وملكه وربوبيته ، وقوله : ( وما ربك بظلام للعبيد ) ، ( ولا يظلم ربك أحدا ) لكمال غناه وعدله ورحمته ، وقوله : ( وما مسنا من لغوب ) لكمال قدرته ، وقوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) [ ص: 162 ] لكمال علمه ، وقوله : ( لا تدركه الأبصار ) لعظمته وإحاطته بما سواه ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه واسع ; فيرى ولكن لا يحاط ربه إدراكا ; كما يعلم ولا يحاط به علما ، فيرى ولا يحاط به رؤية ، وهكذا ( ليس كمثله شيء ) هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية