ولما كثرت  الجهمية   في آخر عصر التابعين كانوا هم  أول من عارض الوحي بالرأي   ، ومع هذا فكانوا قليلين أذلاء مذمومين ، وأولهم شيخهم   الجعد بن درهم  وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم  مروان بن محمد  وشيخه ولهذا يسمى  مروان الجعد  ، وعلى رأسه سلب الله  بني أمية   الملك والخلافة ، وشتتهم في البلاد ، ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ  المعطلة   النفاة .  
ولما اشتهر أمره في المسلمين طلبه   خالد بن عبد الله القسري  وكان أميرا على  العراق   حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى ، وكان آخر ما قال في خطبته : أيها الناس ، ضحوا ، فإني مضح   بالجعد بن درهم  ، فإنه زعم أن الله لم يكلم  موسى   تكليما ولم يتخذ  إبراهيم   خليلا ، تعالى الله عما يقول  الجعد  علوا كبيرا ، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر ، وكان ضحيته ، ثم طفئت تلك البدعة ، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلالة ، وأنه كلم عبده ورسوله  موسى   تكليما ، وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما ، إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولي على الناس  عبد الله المأمور  ، وكان يحب أنواع العلوم ، وكان مجلسه عامرا بأنواع بالمتكلمين في العلوم ، فغلب عليه حب المعقولات ، فأمر بتعريب كتب  يونان   ، وأقدم لها المترجمين من البلاد ، فترجمت له وعبرت ،      [ ص: 176 ] فاشتغل بها الناس ، والملك سوق ما ينفق فيه جلب إليه ، فغلب على مجلسه من  الجهمية   ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل ، فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها واستحسنها ودعا الناس إليها وعاقبهم عليها ، فلم تطل مدته ، فصار الأمر بعده إلى  المعتصم  ، وهو الذي ضرب   أحمد بن حنبل  ، فقام بالدعوة بعده ،  والجهمية   تصوب فعله وتدعو إليه ، وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم ، وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه ، والقضاة والولاة منهم ، فإنهم تبع لملوكهم ، ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص وتقديم العقول والآراء عليها ، فإن الإسلام كان في ظهور وقوة ، وسوق الحديث نافقة ، وأعلام السنة على ظهر الأرض ، ولكن كانوا على ذلك يحومون حوله يدندنون ، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة ; فمن بين أعمى مستجيب ; ومن بين مكره مفتد بنفسه منهم بإعطاء ما سألوه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد ، فأقامهم بنصرة دينه ، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون ، فإنه  بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين   ، قال تعالى (  وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون      ) فصبروا من  الجهمية   على الأذى الشديد ، ولم يتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رغبوهم به من الوعد ، ولا لما أرعبوهم به من الوعيد ، ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ، ونصر السنة نصرا عزيزا ، وفتح لأهلها فتحا مبينا ، . حتى صرخ بها على رءوس المنابر ، ودعي إليها في كل باد وحاضر ، وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله .  
ثم انقرض ذلك العصر وأهله ، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله على بصيرة ، إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به ، وهم جنود إبليس حقا ، المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم ، وهم  القرامطة   والباطنية   والملاحدة ، ودعوهم إلى العقل المجرد   ، وأن أمور الرسل تعارض العقول ، فهم القائمون بهذه الطريقة حتى القيام بالقول والفعل ، فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى ، وكسروا عسكر الخليفة مرارا عديدة ، وقتلوا الحاج قتلا ذريعا ، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها ، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه ، وقويت شوكتهم واستفحل أمرهم وعظمت بهم الرزية واشتدت بهم البلية .  
 [ ص: 177 ] وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل ،  وإذا تعارض العقل والنقل   قدمنا العقل ، وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام بالمشرق والمغرب ، وكاد الإسلام أن ينهدم ركنه ، لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت في المغرب قليلا ، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب ، ثم أخذوا يطئون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد  مصر   فملكوها وبنوا بها  القاهرة   ، وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم ، وفي زمانهم صنفت رسائل  إخوان الصفا   والإرشادات والشفا وكتب   ابن سينا  ، فإنه قال : كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية ، وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية ، وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي ، واستولوا على بلاد  المغرب   ومصر   والشام   والحجاز   ، واستولوا على  العراق   سنة  وأهل السنة   فيهم كأهل الذمة بين المسلمين ، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة ، فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء ، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء ، حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم في أيام  نور الدين  وابن أخيه  صلاح الدين  ، فأبل الإسلام من علته ، بعدما وطن نفسه على العزاء ، وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء ، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق ، وثابت إليه روحه بعد أن بلغت التراقي ، وقيل : من راق ، واستنقذ الله بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب ، وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب ، وعلت كلمة السنة وأذن بها على رءوس الأشهاد ونادى المنادي : يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد .  
فعاش الناس في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق ، فقدموا الآراء والعقول والسياسة والأذواق على الوحي ، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعهما ، فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وعاثوا في القرى والأمصار ، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رسمه ، وكان مثار هذه الفئة وعالمها الذي يرجع إليه وزعيمها المعول فيها عليه ،  شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل   ، وإمامهم في وقته نصير الشرك والكفر (  الطوسي     ) فلم يعلم في      [ ص: 178 ] عصره أحد عارض بين العقل والنقل معارضة رام بها إبطال النقل بالكلية مثله ، فإنه أقام الدعوة الفلسفية ، واتخذ الإشارات عوضا عن السور والآيات ، وقال : هذه عقليات قطعية برهانية قد قابلت تلك النقليات الخطابية ; واستعرض أهل الإسلام وعلماء أهل الإيمان والقرآن والسنة على السيف ، فلم يبق منهم إلا من قد أعجزه ، قصدا لإبطال الدعوة الإسلامية ، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسية السحرة والمنجمين والفلاسفة والملاحدة والمنطقيين ، ورأى إبطال الأذان وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي ، فحال بينه وبين ذلك من تكفل بحفظ الإسلام ونصره ، وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل .  
ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت ، فإنه أول من عارض بين العقل والنقل ، وقدم العقل ، فكان من أمره ما قص الله ، وورث الشيخ تلامذته هذه المعارضة ، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنة وبلية ، وأصل كل بلية في العالم ، كما قال   محمد الشهرستاني     : من معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع ، والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة ، ثم ظهر مع هذا الشيخ المتأخر المعارض أشياء لم تكن تعرف قبله : حسيات  العميدي  ، وحقائق  ابن عربي  ، وتشكيكات  الرازي  ، وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرسل .  
				
						
						
