الفصل الخامس : فصاحة لسانه وبلاغته  
وأما  فصاحة اللسان وبلاغة القول   ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمحل الأفضل ، والموضع الذي لا يجهل ، سلاسة طبع ، وبراعة منزع ، وإيجاز مقطع ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحة معان وقلة تكلف ،  أوتي جوامع الكلم ، وخص ببدائع الحكم   ، وعلم ألسنة العرب ، يخاطب كل أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه ، وتفسير قوله ، ومن تأمل حديثه ، وسيره علم ذلك ، وتحققه ، وليس كلامه مع  قريش   ،  والأنصار   ،  وأهل الحجاز   ، ونجد ككلامه مع  ذي المشعار الهمداني  ،  وطهفة النهدي  ،  وقطن بن حارثة العليمي  ،   والأشعث بن قيس  ،   ووائل بن حجر الكندي  ، وغيرهم من أقيال  حضرموت   ، وملوك  اليمن   وانظر كتابه إلى  همدان     :  إن لكم فراعها ، ووهاطها ، وعزازها ،      [ ص: 159 ] تأكلون علافها ، وترعون عفاءها ، لنا من دفئهم ، وصرامهم ما سلموا بالميثاق ، والأمانة ، ولهم من الصدقة الثلب ، والناب ، والفصيل ، والفارض ، والداجن ، والكبش الحواري ، وعليهم فيها الصالغ ، والقارح     .  
وقوله  لنهد      :  اللهم بارك لهم في محضها ، ومخضها ، ومذقها ، وابعث راعيها في الدثر ، وافجر له الثمد ، وبارك لهم في المال ، والولد ،  من أقام الصلاة كان مسلما   ،  ومن آتى الزكاة كان محسنا   ، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا ، لكم يا  بني نهد   ودائع الشرك ، ووضائع الملك ، لا تلطط في الزكاة ، ولا تلحد في الحياة ، ولا تتثاقل عن الصلاة     .  
 [ ص: 160 ] وكتب لهم في الوظيفة الفريضة :  ولكم الفارض ، والفريش ، وذو العنان الركوب ، والفلو الضبيس ، لا يمنع سرحكم ، ولا يعضد طلحكم ، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الرماق ، وتأكلوا الرباق ، من أقر فله الوفاء بالعهد ، والذمة ، ومن أبى فعليه الربوة     .  
ومن كتابه   لوائل بن حجر     . إلى  الأقيال العباهلة   ،  والأوراع المشابيب      . وفيه :  في      [ ص: 161 ] التيعة شاة ، لا مقورة الألياط ، ولا ضناك ، وأنطوا الثيجة ، وفي السيوب الخمس ، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة ، واستوفضوه عاما ، ومن زنى مم ثيب ، وضرجوه بالأضاميم ، ولا توصيم في الدين ، ولا عمة في فرائض الله ، وكل مسكر حرام ،   ووائل بن حجر  يترفل على الأقيال     .  
أين هذا من كتابه   لأنس  في الصدقة المشهور . لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد ، وبلاغتهم على هذا النمط ، وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ ؟ استعملها معهم ، ليبين للناس ما نزل إليهم ، وليحدث الناس بما يعملون ، وكقوله في حديث  عطية السعدي     :  فإن اليد العليا هي المنطية ، واليد السفلى هي المنطاة . قال : فكلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغتنا     .  
وقوله في حديث  العامري  حين سأله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل عنك "     : أي سل عما شئت ، وهي لغة  بني عامر      . وأما كلامه المعتاد ، وفصاحته المعلومة ، وجوامع كلمه ، وحكمه المأثورة فقد ألف الناس فيها الدواوين ، وجمعت في ألفاظها ، ومعانيها الكتب ، ومنها ما لا يوازى فصاحة ، ولا يبارى بلاغة ، كقوله : المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .  
 [ ص: 162 ] وقوله :  الناس كأسنان المشط      .  و المرء مع من أحب      . ولا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له . و الناس معادن . وما هلك امرؤ عرف قدره .  والمستشار مؤتمن وهو بالخير ما لم يتكلم      .  ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم      .  
وقوله :  أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين .  وإن  أحبكم إلي ، وأقربكم مني مجالس يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقا   الموطئون أكنافا الذين يألفون ، ويؤلفون .  
وقوله :  لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، ويبخل بما لا يغنيه .  
وقوله :  ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها   ونهيه عن  قيل وقال ، وكثرة السؤال   ، وإضاعة المال ، ومنع ، وهات ،  وعقوق الأمهات   ،  ووأد البنات      .  
 [ ص: 163 ] وقوله :  اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ،  وخالق الناس بخلق حسن      . وخير الأمور أوسطها .  
وقوله :  أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما .  
وقوله :  الظلم ظلمات يوم القيامة      .  
وقوله في بعض دعائه :  اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، وتجمع بها أمري ، وتلم بها شعثي ، وتصلح بها غائبي ، وترفع بها شاهدي ، وتزكي بها علمي ، وتلهمني بها رشدي ، وترد بها ألفتي ، وتعصمني بها من كل سوء . اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء ، ونزل الشهداء ، وعيش السعداء ، والنصر على الأعداء .  إلى ما روته الكافة عن الكافة من مقاماته ، ومحاضراته ، وخطبه ، وأدعيته ، ومخاطباته ، وعهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، وحاز فيها سبقا لا يقدر قدره ، وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها ، ولا قدر أحد أن يفرغ في قالبه عليها ، كقوله :  حمي الوطيس .  و  مات حتف أنفه  و  لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .  و  السعيد من وعظ بغيره .     . في أخواتها مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ، ويذهب به الفكر في أداني حكمها ، وقد قال له أصحابه : ما رأينا      [ ص: 164 ] الذي هو أفصح منك . فقال :  وما يمنعني ؟ وإنما أنزل القرآن بلساني ، لسان عربي مبين  وقال مرة أخرى :  بيد أني من قريش ، ونشأت في بني سعد .  فجمع له بذلك - صلى الله عليه وسلم - قوة عارضة البادية ، وجزالتها ، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ، ورونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري وقالت  أم معبد  في وصفها له :  حلو المنطق ، فصل لا نزر ، ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظمن . وكان جهير الصوت ، حسن النغمة - صلى الله عليه وسلم -     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					