الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما أركانها فستة : منها القيام ، والأصل أن كل متركب من معان متغايرة ينطلق اسم المركب عليها عند اجتماعها كان كل معنى منها ركنا للمركب كأركان البيت في المحسوسات ، والإيجاب والقبول في باب البيع في المشروعات وكل ما يتغير الشيء به ، ولا ينطلق عليه اسم ذلك الشيء - كان شرطا ، كالشهود في باب النكاح فهذا تعريف الركن والشرط بالتحديد .

                                                                                                                                وأما تعريفهما بالعلامة في هذا الباب : فهو أن كل ما يدوم من ابتداء الصلاة إلى انتهائها كان شرطا ، وما ينقضي ثم يوجد غيره فهو ركن ، وقد وجد حد الركن وعلامته في القيام ; لأنه إذا وجد مع المعاني الأخر من القراءة والركوع والسجود ينطلق عليها اسم الصلاة ، وكذا لا يدوم من أول الصلاة إلى آخرها ، بل ينقضي ثم يوجد غيره فكان ركنا .

                                                                                                                                وقال الله تعالى : { وقوموا لله قانتين } ، والمراد منه : القيام في الصلاة ( ومنها ) الركوع ، ( ومنها ) السجود ، لوجود حد الركن وعلامته في كل واحد منهما .

                                                                                                                                وقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } ، والقدر المفروض من الركوع أصل الانحناء والميل ، ومن السجود أصل الوضع ، فأما الطمأنينة عليهما فليست بفرض في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف فرض ، وبه أخذ الشافعي ، ولقب المسألة أن تعديل الأركان ليس بفرض عندهما ، وعنده فرض ، ونذكر المسألة عند ذكر واجبات الصلاة وذكر سننها - إن شاء الله تعالى واختلف في محل إقامة فرض السجود ، قال أصحابنا الثلاثة : هو بعض الوجه .

                                                                                                                                وقال زفر والشافعي : السجود فرض على الأعضاء السبعة : الوجه واليدين والركبتين والقدمين ، واحتجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أمرت أن أسجد على سبعة أعظم } وفي رواية { على سبعة آراب : الوجه واليدين والركبتين والقدمين } .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الأمر تعلق بالسجود مطلقا من غير تعيين عضو ، ثم انعقد الإجماع على تعيين بعض الوجه فلا يجوز تعيين غيره ، ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد ; فنحمله على بيان السنة عملا بالدليلين .

                                                                                                                                ثم اختلف أصحابنا الثلاثة في ذلك البعض ، قال أبو حنيفة : هو الجبهة أو الأنف غير عين ، حتى لو وضع أحدهما في حالة الاختيار يجزيه ، غير أنه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة ، ولو وضع الأنف وحده يجوز مع الكراهة وعند أبي يوسف ومحمد : هو الجبهة على التعيين ، حتى لو ترك السجود عليها حال الاختيار لا يجزيه ، وأجمعوا على أنه لو وضع الأنف وحده في حال العذر يجزيه ، ولا خلاف في أن المستحب هو الجمع بينهما حالة الاختيار .

                                                                                                                                احتجا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { مكن جبهتك وأنفك من الأرض } ، أمر بوضعهما جميعا ، إلا أنه إذا وضع الجبهة وحدها وقع معتدا به ; لأن الجبهة هي الأصل في الباب ، والأنف تابع ، ولا عبرة لفوات التابع عند وجود الأصل ; ولأنه أتى بالأكثر وللأكثر حكم الكل ولأبي حنيفة أن المأمور به هو السجود مطلقا عن التعيين ثم قام الدليل على تعيين بعض الوجه بإجماع بيننا ; لإجماعنا على أن ما سوى الوجه وما سوى هذين العضوين من الوجه غير مراد ، والأنف بعض الوجه كالجبهة ولا إجماع على تعيين الجبهة فلا يجوز تعيينها ، وتقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد ; لأنه لا يصلح ناسخا للكتاب فنحمله على بيان السنة احترازا عن الرد - والله أعلم - .

                                                                                                                                هذا إذا كان قادرا على ذلك ، فأما إذا كان عاجزا عنه : فإن كان عجزه عنه بسبب المرض بأن كان مريضا لا يقدر على القيام والركوع والسجود - يسقط عنه ; لأن العاجز عن الفعل لا يكلف به ، وكذا إذا خاف زيادة العلة من ذلك ; لأنه يتضرر به وفيه أيضا حرج ، فإذا عجز عن القيام يصلي قاعدا بركوع وسجود ، فإن عجز [ ص: 106 ] عن الركوع والسجود يصلي قاعدا بالإيماء ، ويجعل السجود أخفض من الركوع ، فإن عجز عن القعود يستلقي ويومئ إيماء ; لأن السقوط لمكان العذر فيتقدر بقدر العذر ، والأصل فيه قوله تعالى { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } قيل : المراد من الذكر المأمور به في الآية هو الصلاة أي : صلوا ، ونزلت الآية في رخصة صلاة المريض أنه يصلي قائما إن استطاع ، وإلا فقاعدا ، وإلا فمضطجعا ، كذا روي عن ابن مسعود وابن عمر وجابر رضي الله عنهم .

                                                                                                                                وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال : مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك تومئ إيماء } ، وإنما جعل السجود أخفض من الركوع في الإيماء ; لأن الإيماء أقيم مقام الركوع والسجود وأحدهما أخفض من الآخر ، كذا الإيماء بهما وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة المريض : { إن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه } .

                                                                                                                                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من لم يقدر على السجود فليجعل سجوده ركوعا وركوعه إيماء } والركوع أخفض من الإيماء ، ثم ما ذكرنا من الصلاة مستلقيا جواب المشهور من الروايات .

                                                                                                                                وروي أنه إن عجز عن القعود يصلي على شقه الأيمن ووجهه إلى القبلة ، وهو مذهب إبراهيم النخعي وبه أخذ الشافعي .

                                                                                                                                ( وجه ) هذا القول قوله تعالى : { وعلى جنوبكم } .

                                                                                                                                وقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : { فعلى جنبك تومئ إيماء } ; ولأن استقبال القبلة شرط جواز الصلاة وذلك يحصل بما قلنا ، ولهذا يوضع في اللحد هكذا ليكون مستقبلا للقبلة .

                                                                                                                                فأما المستلقي يكون مستقبل السماء وإنما يستقبل القبلة رجلاه فقط .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال في المريض : إن لم يستطع قاعدا فعلى القفا يومئ إيماء ، فإن لم يستطع فالله أولى بقبول العذر } ، ولأن التوجه إلى القبلة بالقدر الممكن فرض وذلك في الاستلقاء ; لأن الإيماء هو تحريك الرأس ، فإذا صلى مستلقيا يقع إيماؤه إلى القبلة ، وإذا صلى على الجنب يقع منحرفا عنها ، ولا يجوز الانحراف عن القبلة من غير ضرورة ، وبه تبين أن الأخذ بحديث ابن عمر أولى .

                                                                                                                                وقيل : إن المرض الذي كان بعمران كان باسورا ، فكان لا يستطيع أن يستلقي على قفاه ، والمراد من الآية الاضطجاع ، يقال : فلان وضع جنبه إذا نام وإن كان مستلقيا ، وهو الجواب عن التعلق بالحديث ، على أن الآية والحديث دليلنا ; لأن كل مستلق فهو مستلق على الجنب ; لأن الظهر متركب من الضلوع فكان له النصف من الجنبين جميعا ، وعلى ما يقوله الشافعي يكون على جنب واحد ، فكان ما قلناه أقرب إلى معنى الآية والحديث فكان أولى .

                                                                                                                                وهذا بخلاف الوضع في اللحد ; لأنه ليس على الميت في اللحد فعل يوجب توجيهه إلى القبلة ليوضع مستلقيا ، فكان استقبال القبلة في الوضع على الجنب فوضع كذلك .

                                                                                                                                ولو قدر على القعود ، لكن نزع الماء من عينيه فأمر أن يستلقي أياما على ظهره ونهي عن القعود والسجود - أجزأه أن يستلقي ويصلي بالإيماء وقال مالك لا يجزئه ، ( واحتج ) بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن طبيبا قال له بعدما كف بصره : لو صبرت أياما مستلقيا صحت عيناك ، فشاور عائشة وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم فلم يرخصوا له في ذلك وقالوا له : أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن حرمة الأعضاء كحرمة النفس ، ولو خاف على نفسه من عدو أو سبع لو قعد جاز له أن يصلي بالاستلقاء ، فكذا إذا خاف على عينيه ، وتأويل حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه لم يظهر لهم صدق ذلك الطبيب فيما يدعي ، ثم إذا صلى المريض قاعدا بركوع وسجود أو بإيماء كيف يقعد ؟ أما في حال التشهد : فإنه يجلس كما يجلس للتشهد بالإجماع .

                                                                                                                                وأما في حال القراءة وفي حال الركوع : روي عن أبي حنيفة أنه يقعد كيف شاء من غير كراهة إن شاء محتبيا ، وإن شاء متربعا ، وإن شاء على ركبتيه كما في التشهد .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه إذا افتتح تربع ، فإذا أراد أن يركع فرش رجله اليسرى وجلس عليها .

                                                                                                                                وروي عنه أنه يتربع على حاله ، وإنما ينقض ذلك إذا أراد السجدة وقال زفر يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته والصحيح ما روي عن أبي حنيفة ; لأن عذر المرض أسقط عنه الأركان فلأن يسقط عنه الهيئات أولى وإن كان قادرا على القيام دون الركوع والسجود يصلي قاعدا بالإيماء ، وإن صلى قائما [ ص: 107 ] بالإيماء أجزأه ولا يستحب له ذلك وقال زفر والشافعي : لا يجزئه إلا أن يصلي قائما ، ( واحتجا ) بما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمران بن حصين رضي الله عنه : { فإن لم تستطع فقاعدا } ، علق الجواز قاعدا بشرط العجز عن القيام ، ولا عجز ; ولأن القيام ركن فلا يجوز تركه مع القدرة عليه كما لو كان قادرا على القيام والركوع والسجود ، والإيماء حالة القيام مشروع في الجملة بأن كان الرجل في طين وردغة راجلا ، أو في حالة الخوف من العدو وهو راجل ، فإنه يصلي قائما بالإيماء ، كذا ههنا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن الغالب أن من عجز عن الركوع والسجود كان عن القيام أعجز ; لأن الانتقال من القعود إلى القيام أشق من الانتقال من القيام إلى الركوع ، والغالب ملحق بالمتيقن في الأحكام ، فصار كأنه عجز عن الأمرين ، إلا أنه متى صلى قائما جاز ; لأنه تكلف فعلا ليس عليه ، فصار كما لو تكلف الركوع جاز وإن لم يكن عليه كذا ههنا ; ولأن السجود أصل وسائر الأركان كالتابع له ، ولهذا كان السجود معتبرا بدون القيام كما في سجدة التلاوة ، وليس القيام معتبرا بدون السجود بل لم يشرع بدونه ، فإذا سقط الأصل سقط التابع ضرورة ، ولهذا سقط الركوع عمن سقط عنه السجود ، وإن كان قادرا على الركوع ، وكان الركوع بمنزلة التابع له ، فكذا القيام بل أولى ; لأن الركوع أشد تعظيما وإظهارا لذل العبودية من القيام ، ثم لما جعل تابعا له وسقط بسقوطه فالقيام أولى ، إلا أنه لو تكلف وصلى قائما يجوز لما ذكرنا ، ولكن لا يستحب ; لأن القيام بدون السجود غير مشروع ، بخلاف ما إذا كان قادرا على القيام والركوع والسجود ; لأنه لم يسقط عنه الأصل فكذا التابع .

                                                                                                                                وأما الحديث فنحن نقول بموجبه : إن العجز شرط لكنه موجود ههنا نظرا إلى الغالب ، لما ذكرنا أن الغالب هو العجز في هذه الحالة ، والقدرة في غاية الندرة ، والنادر ملحق بالعدم ، ثم المريض إنما يفارق الصحيح فيما يعجز عنه ، فأما فيما يقدر عليه فهو كالصحيح ; لأن المفارقة للعذر ، فتتقدر بقدر العذر ، حتى لو صلى قبل وقتها أو بغير وضوء أو بغير قراءة عمدا أو خطأ وهو يقدر عليهما لم يجزه ، وإن عجز عنها أومأ بغير قراءة ; لأن القراءة ركن فتسقط بالعجز كالقيام ، ألا ترى أنها سقطت في حق الأمي ؟ وكذا إذاصلى لغير القبلة متعمدا لذلك لم يجزه ، وإن كان ذلك خطأ منه أجزأه ، بأن اشتبهت عليه القبلة وليس بحضرته من يسأله عنها فتحرى وصلى ثم تبين أنه أخطأ ، كما في حق الصحيح ، وإن كان وجه المريض إلى غير القبلة وهو لا يجد من يحول وجهه إلى القبلة ولا يقدر على ذلك بنفسه يصلي كذلك ; لأنه ليس في وسعه إلا ذلك ، وهل يعيدها إذا برئ ؟ روي عن محمد بن مقاتل الرازي أنه يعيدها وأما في ظاهر الجواب فلا إعادة عليه ; لأن العجز عن تحصيل الشرائط لا يكون فوق العجز عن تحصيل الأركان ، وثمة لا تجب الإعادة فههنا أولى ولو كان بجبهته جرح لا يستطيع السجود على الجبهة لم يجزه الإيماء ، وعليه السجود على الأنف ; لأن الأنف مسجد كالجبهة خصوصا عند الضرورة على ما مر ، وهو قادر على السجود عليه فلا يجزئه الإيماء .

                                                                                                                                ولو عجز عن الإيماء وهو تحريك الرأس فلا شيء عليه عندنا .

                                                                                                                                وقال زفر : يومئ بالحاجبين أولا ، فإن عجز فبالعينين ، فإن عجز فبقلبه وقال الحسن بن زياد : يومئ بعينيه وبحاجبيه ولا يومئ بقلبه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول زفر أن الصلاة فرض دائم لا يسقط إلا بالعجز ، فما عجز عنه يسقط وما قدر عليه يلزمه بقدره ، فإذا قدر بالحاجبين كان الإيماء بهما أولى ; لأنهما أقرب إلى الرأس ، فإن عجز الآن يومئ بعينيه ; لأنهما من الأعضاء الظاهرة ، وجميع البدن ذو حظ من هذه العبادة كذا العينان ، فإن عجز فبالقلب ; لأنه في الجملة ذو حظ من هذه العبادة وهو النية ، ألا ترى أن النية شرط صحتها ؟ فعند العجز تنتقل إليه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول الحسن أن أركان الصلاة تؤدى بالأعضاء الظاهرة ، فأما الباطنة فليس بذي حظ من أركانها بل هو ذو حظ من الشرط وهو النية ، وهي قائمة أيضا عند الإيماء فلا يؤدى به الأركان والشرط جميعا .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المريض إن لم يستطع قاعدا فعلى القفا يومئ إيماء ، فإن لم يستطع فالله أولى بقبول العذر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه معذور عند الله - تعالى - في هذه الحالة ، فلو كان عليه الإيماء بما ذكرتم لما كان معذورا ، ولأن الإيماء ليس بصلاة حقيقة ولهذا لا يجوز التنفل به في حالة الاختيار ، ولو كان صلاة لجاز كما لو تنفل قاعدا إلا أنه أقيم مقام الصلاة بالشرع ، والشرع ورد بالإيماء بالرأس فلا يقام غيره مقامه ، ثم إذا سقطت عنه الصلاة بحكم [ ص: 108 ] العجز فإن مات من ذلك المرض لقي الله تعالى ولا شيء عليه ; لأنه لم يدرك وقت القضاء .

                                                                                                                                وأما إذا برئ أو صح فإن كان المتروك صلاة يوم وليلة أو أقل فعليه القضاء بالإجماع ، وإن كان أكثر من ذلك فقال بعض مشايخنا : يلزمه القضاء أيضا ; لأن ذلك لا يعجزه عن فهم الخطاب فوجبت عليه الصلاة فيؤاخذ بقضائها ، بخلاف الإغماء ; لأنه يعجزه عن فهم الخطاب فيمنع الوجوب عليه ، والصحيح أنه لا يلزمه القضاء ; لأن الفوائت دخلت في حد التكرار ، وقد فاتت لا بتضييعه القدرة بقصده ، فلو وجب عليه قضاؤها لوقع في الحرج ، وبه تبين أن الحال لا يختلف بين العلم أو الجهل ; لأن معنى الحرج لا يختلف ، ولهذا سقطت عن الحائض وإن لم يكن الحيض يعجزها عن فهم الخطاب ، وعلى هذا إذا أغمي عليه يوما وليلة أو أقل ثم أفاق قضى ما فاته ، وإن كان أكثر من يوم وليلة لا قضاء عليه عندنا استحسانا وقال بشر : الإغماء ليس بمسقط حتى يلزمه القضاء ، وإن طالت مدة الإغماء وقال الشافعي : الإغماء يسقط إذا استوعب وقت صلاة كاملا وتذكر هذه المسائل في موضع آخر عند بيان ما يقضى من الصلاة التي فاتت عن وقتها وما لا يقضى منها - إن شاء الله تعالى - .

                                                                                                                                ولو شرع في الصلاة قاعدا وهو مريض ثم صح وقدر على القيام فإن كان شروعه بركوع وسجود بني في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - استحسانا ، وعند محمد يستقبل قياسا ، بناء على أن عند محمد القائم لا يقتدي بالقاعد فكذا لا يبني أول صلاته على آخرها في حق نفسه ، وعندهما يجوز الاقتداء فيجوز البناء ، والمسألة تأتي في موضعها وإن كان شروعه بالإيماء يستقبل عند علمائنا الثلاثة ، وعند زفر يبني ; لأن من أصله أنه يجوز اقتداء الراكع الساجد بالمومئ ، فيجوز البناء ، وعندنا لا يجوز الاقتداء فلا يجوز البناء على ما يذكر .

                                                                                                                                ( وأما ) الصحيح إذا شرع في الصلاة ثم عرض له مرض بنى على صلاته على حسب إمكانه قاعدا أو مستلقيا في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة أنه إذا صار إلى الإيماء يستقبل ; لأنهما فرضان مختلفان فعلا فلا يجوز أداؤهما بتحريمة واحدة كالظهر مع العصر ، والصحيح ظاهر الرواية ; لأن بناء آخر الصلاة على أول الصلاة بمنزلة بناء صلاة المقتدي على صلاة الإمام ، وثمة يجوز اقتداء المومئ بالصحيح لما يذكر فيجوز البناء ههنا ; ولأنه لو بنى لصار مؤديا بعض الصلاة كاملا وبعضها ناقصا ، ولو استقبل لأدى الكل ناقصا ، ولا شك أن الأول أولى .

                                                                                                                                ولو رفع إلى وجه المريض وسادة أو شيء فسجد عليه من غير أن يومئ لم يجز ; لأن الفرض في حقه الإيماء ولم يوجد ، ويكره أن يفعل هذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مريض يعوده فوجده يصلي كذلك فقال : إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأوم برأسك .

                                                                                                                                وروي أن عبد الله بن مسعود دخل على أخيه يعوده فوجده يصلي ويرفع إليه عود فيسجد عليه ، فنزع ذلك من يد من كان في يده وقال : هذا شيء عرض لكم الشيطان ، أوم لسجودك .

                                                                                                                                وروي أن ابن عمر رأى ذلك من مريض فقال : أتتخذون مع الله آلهة أخرى ؟ ، فإن فعل ذلك ينظر : إن كان يخفض رأسه للركوع شيئا ثم للسجود ثم يلزق بجبينه يجوز لوجود الإيماء لا للسجود على ذلك الشيء ، فإن كانت الوسادة موضوعة على الأرض وكان يسجد عليها - جازت صلاته لما روي أن أم سلمة كانت تسجد على مرفقة موضوعة بين يديها لرمد بها ، ولم يمنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الصحيح إذا كان على الراحلة وهو خارج المصر وبه عذر مانع من النزول عن الدابة ، من خوف العدو أو السبع ، أو كان في طين أو ردغة يصلي الفرض على الدابة قاعدا بالإيماء من غير ركوع وسجود ; لأن عند اعتراض هذه الأعذار عجز عن تحصيل هذه الأركان من القيام والركوع والسجود ، فصار كما لو عجز بسبب المرض ، ويومئ إيماء ، لما روي في حديث جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئ على راحلته ويجعل السجود أخفض من الركوع } لما ذكرنا ، ولا تجوز الصلاة على الدابة بجماعة سواء تقدمهم الإمام أو توسطهم في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وروي عن محمد أنه قال : أستحسن أن يجوز اقتداؤهم بالإمام إذا كانت دوابهم بالقرب من دابة الإمام على وجه لا يكون بينهم وبين الإمام فرجة إلا بقدر الصف بالقياس على الصلاة على الأرض ، والصحيح جواب ظاهر الرواية ; لأن اتحاد المكان من شرائط صحة الاقتداء ليثبت اتحاد الصلاتين تقديرا بواسطة اتحاد المكان ، وهذا ممكن على الأرض ; لأن المسجد جعل كمكان واحد شرعا ، وكذا في الصحراء تجعل الفرج التي بين [ ص: 109 ] الصفوف مكان الصلاة ; لأنها تشغل بالركوع والسجود أيضا فصار المكان متحدا ، ولا يمكن على الدابة لأنهم يصلون عليها بالإيماء من غير ركوع وسجود ، فلم تكن الفرج التي بين الصفوف والدواب مكان الصلاة فلا يثبت اتحاد المكان تقديرا ، ففات شرط صحة الاقتداء فلم يصح ، ولكن تجوز صلاة الإمام لأنه منفرد حتى لو كانا على دابة واحدة في محمل واحد أو في شقي محمل واحد ، كل واحد منهما في شق على حدة ، فاقتدى أحدهما بالآخر جاز لاتحاد المكان وتجوز الصلاة على أي دابة كانت ، سواء كانت مأكولة اللحم أو غير مأكولة اللحم ، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على حماره وبعيره .

                                                                                                                                ولو كان على سرجه قذر جازت صلاته ، كذا ذكر في الأصل ، وعن أبي حفص البخاري ومحمد بن مقاتل الرازي أنه إذا كانت النجاسة في موضع الجلوس أو في موضع الركابين أكثر من قدر الدرهم لا تجوز اعتبارا بالصلاة على الأرض وأولا العذر المذكور في الأصل بالعرف ، وعند عامة مشايخنا تجوز - كما ذكرنا في الأصل - لتعليل محمد ، وهو قوله : والدابة أشد من ذلك ، وهو يحتمل معنيين : أحدهما أن ما في بطنها من النجاسات أكثر من هذا ، ثم إذا لم يمنع الجواز فهذا أولى والثاني - أنه لما سقط اعتبار الأركان الأصلية بالصلاة عليها من القيام والركوع والسجود - مع أن الأركان أقوى من الشرائط - فلأن يسقط شرط طهارة المكان أولى ; ولأن طهارة المكان إنما تشترط لأداء الأركان عليه وهو لا يؤدي على موضع سرجه وركابيه ههنا ركنا ليشترط طهارتها ; إنما الذي يوجد منه الإيماء ، وهو إشارة في الهواء فلا يشترط له طهارة موضع السرج والركابين ، وتجوز الصلاة على الدابة لخوف العدو كيفما كانت الدابة واقفة أو سائرة ; لأنه يحتاج إلى السير ، فأما لعذر الطين والردغة فلا يجوز إذا كانت الدابة سائرة ; لأن السير مناف للصلاة في الأصل فلا يسقط اعتباره إلا لضرورة ، ولم توجد ولو استطاع النزول ولم يقدر على القعود للطين والردغة ينزل ويومئ قائما على الأرض ، وإن قدر على القعود ولم يقدر على السجود ينزل ويصلي قاعدا بالإيماء ; لأن السقوط بقدر الضرورة والله الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية