الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                والكلام في التسمية في مواضع ، أحدها أنها من القرآن أم لا ، والثاني أنها من الفاتحة أم لا ، والثالث أنها من رأس السورة أم لا ، وينبني على كل فصل ما يتعلق به من الأحكام .

                                                                                                                                أما الأول فالصحيح من مذهب أصحابنا أنها من القرآن ; لأن الأمة أجمعت على أن ما كان بين الدفتين مكتوبا بقلم الوحي فهو من القرآن والتسمية كذلك ، وكذا روى المعلى عن محمد فقال : قلت لمحمد : التسمية آية من القرآن أم لا ؟ فقال : ما بين الدفتين كله قرآن ، فقلت : فما بالك لا تجهر بها فلم يجبني .

                                                                                                                                وكذا روى الجصاص عن محمد أنه قال : التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السورة للبداءة بها تبركا وليست بآية من كل واحدة منها ، وإليه أشار في كتاب الصلاة فإنه قال : ثم يفتتح القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم ، وينبني على هذا أن فرض القراءة في الصلاة يتأدى بها عند أبي حنيفة إذا قرأها على قصد القراءة دون الثناء عند بعض مشايخنا ; لأنها آية من القرآن .

                                                                                                                                وكذا روي عن عبد الله بن المبارك أن من ترك بسم الله الرحمن الرحيم في القرآن فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية ، وقال بعضهم : لا يتأدى ; لأن في كونها آية تامة احتمال فإنه روي عن الأوزاعي أنه قال : ما أنزل الله في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم إلا في سورة النمل ، وإنها في النمل وحدها ليست بآية تامة وإنما الآية قوله { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } فوقع الشك في كونها آية تامة فلا تجوز الصلاة بالشك وكذا يحرم على الجنب والحائض والنفساء قراءتها على قصد القرآن .

                                                                                                                                أما على قياس رواية الكرخي فظاهر ; لأن ما دون الآية يحرم عليهم ، وكذا على رواية الطحاوي لاحتمال أنها آية تامة فتحرم قراءتها عليهم احتياطا .

                                                                                                                                وأما الثاني والثالث فعند أصحابنا ليست من الفاتحة ولا من رأس كل سورة ، وقال الشافعي : إنها من الفاتحة قولا واحدا ، وله في كونها من رأس كل سورة قولان ، وقال الكرخي : لا أعرف في هذه المسألة بعينها عند متقدمي أصحابنا في الاختلاف نصا لكن أمرهم بالإخفاء دليل على أنها ليست من الفاتحة ; لامتناع أن يجهر ببعض السورة دون البعض احتج الشافعي بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم } فقد عد التسمية آية من الفاتحة دل أنها من الفاتحة ; ولأنها كتبت في المصاحف على رأس الفاتحة وكل سورة بقلم الوحي فكانت من الفاتحة ومن كل سورة ، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم خبرا عن الله تعالى أنه قال : { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم قال الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل } وجه الاستدلال به من وجهين ، أحدهما أنه بدأ بقوله الحمد لله رب العالمين لا بقوله بسم الله الرحمن الرحيم ، ولو كانت من الفاتحة لكانت البداءة بها لا بالحمد .

                                                                                                                                والثاني أنه نص على المناصفة ولو كانت التسمية من الفاتحة لم تتحقق المناصفة بل يكون ما لله أكثر ; لأنه يكون في النصف الأول أربع آيات ونصف ; ولأن كون الآية من سورة كذا ومن موضع كذا لا يثبت إلا بالدليل المتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 204 ] وقد ثبت بالتواتر أنها مكتوبة في المصاحف ولا تواتر على كونها من السورة ولهذا اختلف أهل العلم فيه فعدها قراء أهل الكوفة من الفاتحة ولم يعدها قراء أهل البصرة منها ، وذا دليل عدم التواتر ووقوع الشك والشبهة في ذلك فلا يثبت كونها من السورة مع الشك ; ولأن كون التسمية من كل سورة مما اختص به الشافعي لا يوافقه في ذلك أحد من سلف الأمة وكفى به دليلا على بطلان المذهب ، والدليل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك } وقد اتفق القراء وغيرهم على أنها ثلاثون آية سوى بسم الله الرحمن الرحيم .

                                                                                                                                ولو كانت هي منها لكانت إحدى وثلاثين آية وهو خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم وكذا انعقد الإجماع من الفقهاء والقراء أن سورة الكوثر ثلاث آيات وسورة الإخلاص أربع آيات ولو كانت التسمية منها لكانت سورة الكوثر أربع آيات وسورة الإخلاص خمس آيات وهو خلاف الإجماع .

                                                                                                                                وأما ما روي من الحديث ففيه اضطراب فإن بعضهم شك في ذكر أبي هريرة في الإسناد ولأن مداره على عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يرفعه ، وذكر أبو بكر الحنفي وقال : لقيت نوحا فحدثني به عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يرفعه ، والاختلاف في السند والوقف والرفع يوجب ضعفا فيه ; ولأنه في حد الآحاد وخبر الواحد لا يوجب العلم وكون التسمية من الفاتحة لا تثبت إلا بالنقل الموجب للعلم مع أنه عارضه ما هو أقوى منه وأثبت وأشهر وهو حديث القسمة فلا يقبل في معارضته .

                                                                                                                                أما قوله إنها كتبت في المصاحف بقلم الوحي على رأس السور فنعم لكن هذا يدل على كونها من القرآن لا على كونها من السور لجواز أنها كتبت للفصل بين السور لا لأنها منها فلا يثبت كونها من السور بالاحتمال ، وينبني على هذا أنه لا يجهر بالتسمية في الصلاة عندنا ; لأنه لا نص في الجهر بها وليست من الفاتحة حتى يجهر بها ضرورة الجهر بالفاتحة ، وعنده يجهر بها في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة كما يجهر بالفاتحة لكونها من الفاتحة ولأن التسمية متى ترددت بين أن تكون من الفاتحة وبين أن لا تكون تردد الجهر بين السنة والبدعة ; لأنها إذا لم تكن منها التحقت بالأذكار ، والجهر بالأذكار بدعة والفعل إذا تردد بين السنة والبدعة تغلب جهة البدعة ; لأن الامتناع عن البدعة فرض ولا فرضية في تحصيل السنة أو الواجب فكان الإخفاء بها أولى ، والدليل عليه ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الفضل وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم رضي الله عنهم أنهم كانوا يخفون التسمية وكثير منهم قال : الجهر بالتسمية إعرابية والمنسوب إليهم باطل لغلبة الجهل عليهم بالشرائع .

                                                                                                                                وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال { : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكانوا لا يجهرون بالتسمية } ، ثم عندنا إن لم يجهر بالتسمية لكن يأتي بها الإمام لافتتاح القراءة بها تبركا كما يأتي بالتعوذ في الركعة الأولى باتفاق الروايات ، وهل يأتي بها في أول الفاتحة في الركعات الأخر ؟ عن أبي حنيفة روايتان ، روى الحسن عنه أنه لا يأتي بها إلا في الركعة الأولى ; لأنها ليست من الفاتحة عندنا وإنما يفتتح القراءة بها تبركا وذلك مختص بالركعة الأولى كالتعوذ ، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بها في كل ركعة وهو قول أبي يوسف ومحمد ; لأن التسمية إن لم تجعل من الفاتحة قطعا بخبر الواحد لكن خبر الواحد يوجب العمل فصارت من الفاتحة عملا فمتى لزمه قراءة الفاتحة يلزمه قراءة التسمية احتياطا .

                                                                                                                                وأما عند رأس كل سورة في الصلاة فلا يأتي بالتسمية عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمد يأتي بها احتياطا كما في أول الفاتحة ، والصحيح قولهما ; لأن احتمال كونها من السورة منقطع بإجماع السلف على ما مر وفي أنها ليست من الفاتحة لا إجماع فبقي الاحتمال فوجب العمل به في حق القراءة احتياطا ، ولكن لا يعتبر هذا الاحتمال في حق الجهر ; لأن المخافتة أصل في الأذكار والجهر بها بدعة في الأصل فإذا احتمل أنها ذكر في هذه الحالة واحتمل أنها من الفاتحة كانت المخافتة أبعد عن البدعة فكانت أحق .

                                                                                                                                وروي عن محمد أنه إذا كان يخفي بالقراءة يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة ; لأنه أقرب إلى متابعة المصحف وإذا كان يجهر بها لا يأتي ; لأنه لو فعل لأخفى بها فيكون [ ص: 205 ] سكتة له في وسط القراءة وذلك غير مشروع ثم يقرأ بفاتحة الكتاب والسورة وقد بينا أصل فرضية القراءة وقدرها ومحل القراءة المفروضة في بيان أركان الصلاة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية