ذكر ملك  بهرام بن يزدجرد الأثيم   
لما ولد  يزدجرد  جور اختار لحضانته العرب ، فدعا  بالمنذر بن النعمان  واستحضنه  بهرام  وشرفه وكرمه وملكه على العرب ، فسار به  المنذر  واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة من بنات الأشراف ، منهن عربيتان وعجمية ، فأرضعنه ثلاث سنين . فلما بلغ خمس سنين أحضر له مؤدبين فعلموه الكتابة والرمي والفقه بطلب من  بهرام  بذلك ، وأحضر حكيما من حكماء الفرس  فتعلم ووعى كل ما علمه بأدنى تعليم . فلما بلغ اثنتي عشرة سنة تعلم كل ما أفيد وفاق معلميه ، فأمرهم  المنذر  بالانصراف ، وأحضر معلمي الفروسية فأخذ عنهم كل ما ينبغي له ، ثم صرفهم ، ثم أمر فأحضرت خيل العرب للسباق فسبقها فرس أشقر للمنذر وأقبل باقي الخيل بداد بداد ، فقرب  المنذر  الفرس بيده إليه ، فقبله وركبه يوما للصيد ، فبصر بعانة حمر وحش ، فرمى عليها وقصدها وإذا هو بأسد قد أخذ عيرا منها فتناول ظهره   [ ص: 367 ] بفيه ، فرماه  بهرام  بسهم فنفذ في الأسد والعير ووصل إلى الأرض فساخ السهم إلى ثلثه ، فرآه من معه فعجبوا منه ، ثم أقبل على الصيد واللهو والتلذذ . 
فمات أبوه وهو عند  المنذر  ، فتعاهد العلماء وأهل الشرف على أن لا يملكوا أحدا من ذرية  يزدجرد  لسوء سيرته ، فاجتمعت الكلمة على صرف الملك عن  بهرام  لنشوئه في العرب وتخلقه بأخلاقهم ، ولأنه من ولد  يزدجرد  ، وملكوا رجلا من عقب  أردشير بن بابك  يقال له   كسرى     . فانتهى هلاك  يزدجرد  وتمليك   كسرى  إلى  بهرام  ، فدعا  بالمنذر  وابنه  النعمان  وناس من أشراف العرب وعرفهم إحسان والده إليهم وشدته على الفرس ، وأخبرهم الخبر . فقال  المنذر     : لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه ، وجهز عشرة آلاف فارس ووجههم مع ابنه  النعمان  إلى طيسفون  وبهر  سير مدينتي الملك ، وأمره أن يعسكر قريبا منهما ، ويرسل طلائعه إليهما ، وأن يقاتل من قاتله ويغير على البلاد ، ففعل ذلك ، وأرسل عظماء فارس  حوابى صاحب رسائل  يزدجرد  إلى  المنذر  يعلمه أمر  النعمان  ، فلما ورد  حوابى  قال له : الق الملك  بهرام     . فدخل عليه ، فراعه ما رأى منه ، فأغفل السجود دهشا ، فعرف  بهرام  ذلك فكلمه ووعده أحسن الوعد ورده إلى  المنذر  وقال له : أجبه . فلما سمع  حوابى  مقالة  المنذر  وتذكر ما رأى من  بهرام  علم أن جميع من تشاور في صرف الملك عن  بهرام  محجوج ، فقال  للمنذر     : سر إلى مدينة الملوك فيجتمع إليك الأشراف والعظماء ، وتشاوروا في ذلك فلن يخالفوا ما تشير به . 
وسار  المنذر  بعد عود حوابى من عنده بيوم بثلاثين ألفا من فرسان العرب إلى مدينتي الملك  بهرام  ، فجمع الناس ، وصعد  بهرام  على منبر من ذهب مكلل بالجواهر ، وتكلم عظماء الفرس  فذكروا فظاظة  يزدجرد     -  أبي بهرام     - وسوء سيرته ، وكثرة قتله وإخراب البلاد ، وأنهم لهذا السبب صرفوا الملك عن ولده . 
فقال  بهرام     : لست أكذبكم ، ومازلت زاريا عليه ذلك ، ولم أزل أسأل الله أن يمكنني لأصلح ما أفسد ، ومع هذا فإذا أتى على ملكي سنة ولم أف بما أعد تبرأت من الملك طائعا ، وأنا راض بأن تجعلوا التاج وزينة الملك بين أسدين ضاريين فمن تناولهما كان الملك له . فأجابوه إلى ذلك ، ووضعوا التاج والزينة بين أسدين ، وحضر   [ ص: 368 ] موبذان موبذ فقال  بهرام  لكسرى     : دونك التاج والزينة . فقال   كسرى     : أنت أولى لأنك تطلب الملك بوراثة ، وأنا فيه مغتصب . فحمل  بهرام  جرزا وتوجه نحو التاج ، فبدر إليه أحد الأسدين فوثب  بهرام  فعلا ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجرز الذي معه . ثم وثب الأسد الآخر عليه ، فقبض أذنيه بيده ، ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما ، ثم قتلهما بالجرز الذي معه ، وتناول بعد ذلك التاج والزينة . فكان أول من أطاعه   كسرى  ، وقال جميع من حضر : قد أذعنا لك ورضينا بك ملكا ، وإن العظماء والوزراء والأشراف سألوا  المنذر  ليكلم  بهرام  في العفو عنهم . فسأل  المنذر  الملك  بهرام  ذلك فأجابه . 
وملك  بهرام  وهو ابن عشرين سنة ، وأمر أن يلزم رعيته راحة ودعة ، وجلس للناس يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله ، ولم يزل مدة ملكه يؤثر اللهو على ما سواه ، حتى طمع فيه من حوله من الملوك في بلاده . 
وكان أول من سبق إلى قصده  خاقان  ملك الترك  ، فإنه غزاه في مائتي ألف وخمسين ألفا من الترك  ، فعظم ذلك على الفرس  ، ودخل العظماء على  بهرام  وحذروه فتمادى في لهوه ، ثم تجهز وسار إلى أذربيجان  ليتنسك في بيت نارها ، ويتصيد بأرمينية  في سبعة رهط من العظماء وثلاثمائة من ذوي البأس والنجدة ، واستخلف أخاه  نرسي  ، فما شك الناس في أنه هرب من عدوه ، فاتفق رأي جمهورهم على الانقياد إلى  خاقان  ، وبذل الخراج له خوفا على نفوسهم وبلادهم . 
فبلغ ذلك  خاقان  فأمن ناحيتهم ، وسار  بهرام  من أذربيجان  إلى  خاقان  في تلك العدة ، فثبت للقتال وقتل  خاقان  بيده وقتل جنده وانهزم من سلم من القتل ، وأمعن  بهرام  في طلبهم يقتل ويأسر ويغنم ويسبي ، وعاد جنده سالمين ، وظفر بتاج  خاقان  وإكليله ، وغلب على طرف من بلاده ، واستعمل عليها مرزبانا ، وأتاه رسل الترك  خاضعين مطيعين ، وجعلوا بينهم حدا لا يعدونه ، وأرسل إلى ما وراء النهر قائدا من قواده فقتل وسبى وغنم ، وعاد  بهرام  إلى العراق  ، وولى أخاه نرسي خراسان  وأمره أن ينزل مدينة بلخ    . 
 [ ص: 369 ] واتصل به أن بعض رؤساء الديلم  جمع جمعا كثيرا وأغار على الري  وأعمالها ، فغنم وسبى وخرب البلاد ، وقد عجز أصحابه في الثغر عن دفعه ، وقد قرروا عليهم إتاوة يدفعونها إليه ، فعظم ذلك عليه وسير مرزبانا إلى الري  في عسكر كثيف ، وأمره أن يضع على  الديلمي  من يطمعه في البلاد ويغريه بقصدها ، ففعل ذلك ، فجمع  الديلمي  جموعه وسار إلى الري  ، فأرسل  المرزبان  إلى  بهرام  جور يعلمه خبره ، فكتب إليه يأمره بالمسير نحو الديلمي والمقام بموضع سماه له ، ثم سار  جريدة  في نفر من خواصه ، فأدرك عسكره بذلك المكان ،  والديلمي  لا يعلم بوصوله ، وهو قد قوي طمعه لذلك ، فعبى  بهرام  أصحابه وسار نحو الديلم  ، فلقيهم وباشر القتال بنفسه ، فأخذ رئيسهم أسيرا ، وانهزم عسكره ، فأمر  بهرام  بالنداء فيهم بالأمان لمن عاد إليه ، فعاد الديلم  جميعهم ، فآمنهم ولم يقتل منهم أحدا ، وأحسن إليهم ، وعادوا إلى أحسن طاعة ، وأبقى على رئيسهم ، وصار من خواصه . 
وقيل : كانت هذه الحادثة قبل حرب الترك  ، والله أعلم . 
ولما ظفر بالديلم  أمر ببناء مدينة سماها فيروز بهرام  ، فبنيت له هي ورستاقها . واستوزر  نرسي  ، فأعلمه أنه ماض إلى الهند  متخفيا ، فسار إلى الهند  وهو لا يعرفه أحد ، غير أن الهند  يرون شجاعته وقتله السباع . ثم إن فيلا ظهر وقطع السبيل وقتل خلقا كثيرا ، فاستدل عليه ، فسمع الملك خبره فأرسل معه من يأتيه بخبره . فانتهى  بهرام  والهندي معه إلى الأجمة ، فصعد الهندي شجرة ومضى  بهرام  فاستخرج الفيل وخرج وله صوت شديد ، فلما قرب منه رماه بسهم بين عينيه كاد يغيب ، ووقذه بالنشاب وأخذ مشفره ، ولم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه فاحتز رأسه وأخرجه . 
وأعلم  الهندي  ملكهم بما رأى ، فأكرمه وأحسن إليه وسأله عن حاله ، فذكر أن ملك فارس  سخط عليه فهرب إلى جواره ، وكان لهذا الملك عدو فقصده ، فاستسلم الملك وأراد أن يطيع ويبذل الخراج ، فنهاه  بهرام  وأشار بمحاربته ، فلما التقوا قال  لأساورة الهندي     : احفظوا لي ظهري ، ثم حمل عليهم فجعل يضرب في أعراضهم ويرميهم   [ ص: 370 ] بالنشاب حتى انهزموا ، وغنم أصحاب  بهرام  ما كان في عسكر عدوه ، فأعطى  بهرام  الديبل ومكران وأنكحه ابنته ، فأمر بتلك البلاد فضمت إلى مملكة الفرس    . 
وعاد  بهرام  مسرورا وأغزى  نرسي  بلاد الروم  في أربعين ألفا ، وأمره أن يطالب ملك الروم  بالإتاوة ، فسار إلى القسطنطينية  ، فهادنه ملك الروم  ، فانصرف بكل ما أراد إلى  بهرام     . 
وقيل : إنه لما فرغ من خاقان  والروم  ، سار بنفسه إلى بلاد اليمن  ، ودخل بلاد السودان  ، فقتل مقاتلتهم ، وسبى لهم خلقا كثيرا ، وعاد إلى مملكته . 
ثم إنه في آخر ملكه خرج إلى الصيد ، فشد على عنز فأمعن في طلبه ، فارتطم في جب فغرق ، فبلغ والدته ذلك ، فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه ، فنقلوا من الجب طينا كثيرا حتى صار إكاما عظاما ولم يقدروا عليه . 
وكان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما ، وقيل : ثلاثا وعشرين سنة . 
هكذا ذكر  أبو جعفر  في اسم  بهرام جور  أن أباه  أسلمه  إلى  المنذر بن النعمان  ، كما تقدم ، وذكر عند  يزدجرد الأثيم  أنه سلم ابنه  بهرام  إلى  النعمان بن امرئ القيس  ، ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذلك ، إلا أنه لم ينسب كل قول إلى قائله . 
				
						
						
