[ ص: 323 ] ذكر خروج ملك الروم  إلى خلاط  وأسره    . 
في هذه السنة خرج  أرمانوس  ملك الروم  في مائتي ألف من الروم  ، والفرنج  ، والغرب  ، والروس  ، والبجناك  ، والكرج  ، وغيرهم ، من طوائف تلك البلاد ، فجاءوا في تجمل كثير ، وزي عظيم ، وقصد بلاد الإسلام ، فوصل إلى ملازكرد  من أعمال خلاط    . فبلغ  السلطان ألب أرسلان  الخبر . وهو بمدينة خوي  من أذربيجان  ، قد عاد من حلب    . وسمع ما هو ملك الروم  فيه من كثرة الجموع ، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو ، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همذان  ، وسار هو فيمن عنده من العساكر ، وهم خمسة عشر ألف فارس . وجد في السير وقال لهم : إنني أقاتل محتسبا صابرا ، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى ، وإن كانت الشهادة فإن ابني  ملكشاه  ولي عهدي ، وساروا . 
فلما قارب العدو جعل له مقدمة ، فصادفت مقدمته ، عند خلاط  ، مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم  ، فاقتتلوا ، فانهزمت الروسية ، وأسر مقدمهم ، وحمل إلى السلطان ، فجدع أنفه ، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك ، وأمره أن يرسله إلى بغداذ  ، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم  يطلب منه المهادنة ، فقال : لا هدنة إلا بالري  ، فانزعج السلطان لذلك ، فقال له إمامه وفقيهه  أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري ، الحنفي     : إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان ، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح ، فالقهم يوم الجمعة ، بعد الزوال ، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر ، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر ، والدعاء مقرون بالإجابة . 
 [ ص: 224 ] فلما كانت تلك الساعة صلى بهم ، وبكى السلطان ، فبكى الناس لبكائه ، ودعا ودعوا معه وقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف ، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى ، وألقى القوس والنشاب ، وأخذ السيف والدبوس ، وعقد ذنب فرسه بيده ، وفعل عسكره مثله ، ولبس البياض ، وتحنط ، وقال : إن قتلت فهذا كفني . 
وزحف إلى الروم  وزحفوا إليه ، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب ، وبكى ، وأكثر الدعاء ، ثم ركب وحمل ، وحملت العساكر معه ، فحصل المسلمون في وسطهم وحجز الغبار بينهم ، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا ، وأنزل الله نصره عليهم ، فانهزم الروم  ، وقتل منهم ما لا يحصى ، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى ، وأسر ملك الروم  ، أسره بعض غلمان  كوهرائين  ، أراد قتله ولم يعرفه ، فقال له خادم مع الملك : لا تقتله ، فإنه الملك . 
وكان هذا الغلام قد عرضه  كوهرائين  على نظام الملك ، فرده استحقارا له ، فأثنى عليه  كوهرائين  ، فقال  نظام الملك     : عسى أن يأتينا بملك الروم  أسيرا ، فكان كذلك . 
فلما أسر الغلام الملك أحضره عند  كوهرائين  ، فقصد السلطان وأخبره بأسر الملك ، فأمر بإحضاره ، فلما أحضر ضربه  السلطان ألب أرسلان  ثلاث مقارع بيده وقال له : ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت ؟ فقال : دعني من التوبيخ ، وافعل ما تريد ! فقال السلطان : ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني ؟ فقال : أفعل القبيح . قال له : فما تظن أنني أفعل بك ؟ قال : إما أن تقتلني ، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام ، والأخرى بعيدة ، وهي العفو ، وقبول الأموال ، واصطناعي نائبا عنك . قال : ما عزمت على غير هذا . 
ففداه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار ، وأن يرسل إليه عساكر الروم  أي وقت طلبها ، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم  ، واستقر الأمر على ذلك ، وأنزله في خيمة ، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها ، فأطلق له جماعة من البطارقة  ،   [ ص: 225 ] وخلع عليه ( من الغد ) ، فقال ملك الروم    : أين جهة الخليفة ؟ فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة ، وهادنه السلطان خمسين سنة ، وسيره إلى بلاده ، وسير معه عسكرا أوصلوه إلى مأمنه ، وشيعه السلطان فرسخا . 
وأما الروم  فلما بلغهم خبر الوقعة وثب  ميخائيل  على المملكة فملك البلاد ، فلما وصل  أرمانوس  الملك إلى قلعة دوقية  بلغه الخبر ، فلبس الصوف وأظهر الزهد ، وأرسل إلى  ميخائيل  يعرفه ما تقرر من السلطان ، وقال : إن شئت أن تفعل ما استقر ، وإن شئت أمسكت ، فأجابه  ميخائيل  بإيثار ما استقر ، وطلب وساطته ، وسؤال السلطان في ذلك . 
وجمع  أرمانوس  ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار ، فأرسله إلى السلطان ، وطبق ذهب عليه جواهر بتسعين ألف دينار ، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك ، ثم إن  أرمانوس  استولى على أعمال الأرمن  وبلادهم . ومدح الشعراء السلطان ، وذكروا هذا الفتح ، فأكثروا . 
				
						
						
