فصل 
في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة 
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال " الله أكبر " ولم يقل شيئا قبلها ، ولا تلفظ بالنية البتة ، ولا قال أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما ، ولا قال أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت ، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ، ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة منها البتة ، بل ولا عن أحد من أصحابه ، ولا استحسنه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة ، وإنما غر بعض المتأخرين قول  الشافعي  رضي الله عنه في الصلاة : إنها ليست كالصيام ، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر ، فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية  ، وإنما أراد  الشافعي  رحمه الله بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا ، وكيف يستحب  الشافعي  أمرا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ، ولا أحد من خلفائه وأصحابه ، وهذا هديهم وسيرتهم ، فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه وقابلناه بالتسليم والقبول ، ولا هدي أكمل من هديهم ، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم . 
وكان دأبه في إحرامه لفظة ( الله أكبر ) لا غيرها ، ولم ينقل أحد عنه سواها . 
( وكان يرفع يديه معها ممدودة الأصابع مستقبلا بها القبلة إلى فروع أذنيه  ) وروي : إلى منكبيه  فأبو حميد الساعدي  ومن معه قالوا : حتى يحاذي بهما المنكبين ، وكذلك قال  ابن عمر   . وقال  وائل بن حجر   : إلى حيال أذنيه . وقال البراء   : قريبا من أذنيه . وقيل : هو من العمل المخير فيه ، وقيل : كان أعلاها  [ ص: 195 ] إلى فروع أذنيه وكفاه إلى منكبيه ، فلا يكون اختلافا ، ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع . 
ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى . 
وكان يستفتح تارة ب ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس  ) 
وتارة يقول : ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعها ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئ الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك ، والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك  )  [ ص: 196 ] ولكن المحفوظ أن هذا الاستفتاح  إنما كان يقوله في قيام الليل . 
وتارة يقول : ( اللهم رب جبرائيل  وميكائيل  وإسرافيل  ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم  ) . 
وتارة يقول : ( اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن  . . . ) الحديث . وسيأتي في بعض طرقه الصحيحة عن  ابن عباس  رضي الله عنهما أنه كبر ثم قال ذلك . 
وتارة يقول : ( الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، الحمد لله كثيرا ، الحمد لله  [ ص: 197 ] كثيرا ، الحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، سبحان الله بكرة وأصيلا ، سبحان الله بكرة وأصيلا ، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه  . ) . 
وتارة يقول : ( الله أكبر ، عشر مرات ، ثم يسبح عشر مرات ، ثم يحمد عشرا ، ثم يهلل عشرا ، ثم يستغفر عشرا ، ثم يقول : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ، عشرا ثم يقول : " اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة ، عشرا  . 
فكل هذه الأنواع صحت عنه صلى الله عليه وسلم ) . 
وروي عنه أنه ( كان يستفتح بسبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك  ) ذكر ذلك أهل السنن من حديث علي بن علي الرفاعي  ، عن  أبي المتوكل الناجي  ، عن أبي سعيد  على أنه ربما أرسل . 
وقد روي  [ ص: 198 ] مثله من حديث  عائشة  رضي الله عنها ، والأحاديث التي قبله أثبت منه ، ولكن صح عن  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به ويعلمه الناس ، وقال  الإمام أحمد   : أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر  ، ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسنا . 
وإنما اختار  الإمام أحمد  هذا لعشرة أوجه قد ذكرتها في مواضع أخرى . 
منها : جهر عمر  به يعلمه الصحابة . 
ومنها : اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن ، فإن أفضل الكلام بعد القرآن  سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقد تضمنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإحرام . 
ومنها : أنه استفتاح أخلص للثناء على الله ، وغيره متضمن للدعاء ، والثناء أفضل من الدعاء ، ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ،  [ ص: 199 ] لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى والثناء عليه ، ولهذا كان " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " أفضل الكلام بعد القرآن ، فيلزم أن ما تضمنها من الاستفتاحات أفضل من غيره من الاستفتاحات . 
ومنها : أن غيره من الاستفتاحات عامتها إنما هي في قيام الليل في النافلة ، وهذا كان عمر  يفعله ويعلمه الناس في الفرض . 
ومنها : أن هذا الاستفتاح إنشاء للثناء على الرب تعالى متضمن للإخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله ، والاستفتاح ب " وجهت وجهي " إخبار عن عبودية العبد ، وبينهما من الفرق ما بينهما . 
ومنها : أن من اختار الاستفتاح ب " وجهت وجهي " لا يكمله ، وإنما يأخذ بقطعة من الحديث ويذر باقيه ، بخلاف الاستفتاح ب ( سبحانك اللهم وبحمدك ) فإن من ذهب إليه يقوله كله إلى آخره . 
( وكان يقول بعد ذلك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم يقرأ الفاتحة ، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ، ويخفيها أكثر مما يجهر بها ) 
 [ ص: 200 ] ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا وسفرا ، ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة ، هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية ، فصحيح تلك الأحاديث غير صريح ، وصريحها غير صحيح ، وهذا موضع يستدعي مجلدا ضخما . 
وكانت قراءته مدا يقف عند كل آية ويمد بها صوته . فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال " آمين " فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه 
 [ ص: 201 ] وكان له سكتتان؛ سكتة بين التكبير والقراءة ، وعنها سأله  أبو هريرة  ، واختلف في الثانية ؛ فروي أنها بعد الفاتحة . وقيل إنها بعد القراءة وقبل الركوع . وقيل : هي سكتتان غير الأولى فتكون ثلاثا ، والظاهر إنما هي اثنتان فقط ، وأما الثالثة فلطيفة جدا لأجل تراد النفس ، ولم يكن يصل القراءة بالركوع بخلاف السكتة الأولى ، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح ، والثانية قد قيل : إنها لأجل قراءة المأموم ، فعلى هذا : ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة ، وأما الثالثة فللراحة والنفس فقط وهي سكتة لطيفة ، فمن لم يذكرها فلقصرها ، ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة ، فلا اختلاف بين الروايتين ، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث . 
وقد صح حديث السكتتين من رواية سمرة  ،  وأبي بن كعب  ،  وعمران بن حصين  ، ذكر ذلك أبو حاتم  في " صحيحه " ،  وسمرة هو ابن جندب  ، وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين  سمرة بن جندب  ، وقد قال : ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين   ) ) 
وفي بعض طرق الحديث ؛ فإذا فرغ من القراءة سكت ، وهذا كالمجمل ، واللفظ الأول مفسر مبين ، ولهذا قال  أبو سلمة بن عبد الرحمن   : للإمام  [ ص: 202 ] سكتتان ، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب؛ إذا افتتح الصلاة وإذا قال : " ولا الضالين  " على أن تعيين محل السكتتين إنما هو من تفسير قتادة  ، فإنه روى الحديث عن الحسن  عن سمرة  قال : سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك عمران  فقال : حفظناها سكتة ، فكتبنا إلى  أبي بن كعب  بالمدينة  ، فكتب أبي  أن قد حفظ سمرة  ، قال سعيد   : فقلنا لقتادة   : ما هاتان السكتتان ؟ قال : إذا دخل في الصلاة ، وإذا فرغ من القراءة ، ثم قال بعد ذلك : وإذا قال ( ولا الضالين   ) . 
قال : وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه ، ومن يحتج بالحسن  عن سمرة  يحتج بهذا . 
فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورة غيرها ، وكان يطيلها تارة ويخففها لعارض من سفر أو غيره ، ويتوسط فيها غالبا . 
وكان يقرأ في الفجر بنحو ستين آية إلى مائة آية  ، وصلاها بسورة ( ق ) وصلاها ب ( الروم ) وصلاها ب ( إذا الشمس كورت   ) وصلاها ب ( إذا زلزلت   ) في الركعتين كليهما ، وصلاها ب ( المعوذتين ) وكان في السفر ، وصلاها فافتتح ب ( سورة المؤمنون ) حتى إذا بلغ ذكر موسى  وهارون  في الركعة الأولى أخذته سعلة فركع . 
وكان يصليها يوم الجمعة ب ( الم تنزيل السجدة ) وسورة ( هل أتى على الإنسان   )  [ ص: 203 ] كاملتين ، ولم يفعل ما يفعله كثير من الناس اليوم من قراءة بعض هذه وبعض هذه في الركعتين ، وقراءة السجدة وحدها في الركعتين وهو خلاف السنة . 
وأما ما يظنه كثير من الجهال أن صبح يوم الجمعة فضل بسجدة فجهل عظيم ، ولهذا كره بعض الأئمة قراءة سورة السجدة لأجل هذا الظن ، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد ، وخلق آدم  ، ودخول الجنة والنار ، وذلك مما كان ويكون في يوم الجمعة ، فكان يقرأ في فجرها ما كان ويكون في ذلك اليوم تذكيرا للأمة بحوادث هذا اليوم ، كما كان يقرأ في المجامع العظام كالأعياد والجمعة بسورة ( ق ) و ( اقتربت ) و ( سبح ) و ( الغاشية ) . 
				
						
						
