فصل 
قال  ابن إسحاق   : وأصبح الناس ولا ماء معهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء 
 [ ص: 467 ] ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته ، فقال زيد بن اللصيت   - وكان منافقا - : أليس يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن رجلا يقول -وذكر مقالته - وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها ، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا ، وقد حبستها شجرة بزمامها ، فانطلقوا حتى تأتوني بها ، فذهبوا فأتوه بها  ) 
وفي طريقه تلك (خرص حديقة المرأة بعشرة أوسق) 
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون : تخلف فلان ، فيقول : ( دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه  ) 
وتلوم على أبي ذر  بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كن أبا ذر  ، فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله والله هو أبو ذر  ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله أبا ذر  ، يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده   ) 
قال  ابن إسحاق   : فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي  ، عن  محمد بن كعب  [ ص: 468 ] القرظي  ، عن  عبد الله بن مسعود  قال : لما نفى عثمان  أبا ذر  إلى الربذة  وأصابه بها قدره ، لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه ، فأوصاهما : أن غسلاني وكفناني ، ثم ضعاني على قارعة الطريق ، فأول ركب يمر بكم فقولوا : هذا أبو ذر  صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه ، فلما مات فعلا ذلك به ، ثم وضعاه على قارعة الطريق ، وأقبل  عبد الله بن مسعود  في رهط معه من أهل العراق  عمارا ، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها ، وقام إليهم الغلام فقال : هذا أبو ذر  صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه ، قال : فاستهل عبد الله  يبكي ويقول : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ، ثم نزل هو وأصحابه فواروه  ) ، ثم حدثهم  عبد الله بن مسعود  حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك  
قلت : وفي هذه القصة نظر ، فقد ذكر  أبو حاتم بن حبان  في " صحيحه " وغيره في قصة وفاته ، عن مجاهد  ، عن  إبراهيم بن الأشتر  ، عن أبيه ( عن أم ذر  قالت : لما حضرت أبا ذر  الوفاة بكيت فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا ، ولا يدان لي في تغييبك ، قال : أبشري ولا تبكي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، يشهده عصابة من المسلمين ، وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة ، فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كذبت ولا كذبت فأبصري الطريق ، فقلت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق ، فقال اذهبي فتبصري ، قالت : فكنت أسند إلى الكثيب أتبصر ثم أرجع فأمرضه ، فبينا أنا وهو كذلك إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم ، قالت : فأشرت إليهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي فقالوا : يا أمة الله ما لك ؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه ، قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر  ، قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : نعم ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم  [ ص: 469 ] وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه ، فقال لهم : أبشروا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ، وليس من أولئك النفر رجل إلا وقد هلك في جماعة ، والله ما كذبت ولا كذبت ، إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها ، فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا ، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال ، إلا فتى من الأنصار  قال : أنا يا عم أكفنك في ردائي هذا ، وفي ثوبين من عيبتي من غزل أمي ، قال : أنت فكفني ، فكفنه الأنصاري ، وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان  ) 
رجعنا إلى قصة تبوك   ، وقد كان رهط من المنافقين ، منهم وديعة بن ثابت  أخو بني عمرو بن عوف  ، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة  يقال له : مخشي بن حمير  ، قال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر  كقتال العرب بعضهم لبعض ؟! والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال - إرجافا وترهيبا للمؤمنين - فقال مخشي بن حمير   : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لعمار بن ياسر   : ( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا ، فانطلق إليهم عمار  فقال لهم ذلك ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت   : كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله فيهم ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب   ) [ التوبة : 65 ] فقال مخشي بن حمير   : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي ، فكان الذي عفي عنه في هذه الآية ، وتسمى عبد الرحمن  ، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة  فلم يوجد له أثر  ) . 
 [ ص: 470 ] وذكر ابن عائذ  في " مغازيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل تبوك  في زمان قل ماؤها فيه ، فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ، ففارت عينها حتى امتلأت ، فهي كذلك حتى الساعة 
قلت : في " صحيح  مسلم   " أنه قال قبل وصوله إليها : ( إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك  ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار ، فمن جاءها فلا يمسن من مائها شيئا حتى آتي ، قال : فجئناها وقد سبق إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم ، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ، وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها ، فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك يا معاذ  إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا  ) 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					