فصل 
في هديه صلى الله عليه وسلم في قيام الليل 
قد اختلف السلف والخلف في أنه : هل كان فرضا عليه أم لا ؟ والطائفتان احتجوا بقوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك   ) [ الإسراء : 79 ] قالوا : فهذا صريح في عدم الوجوب ، قال الآخرون : أمره بالتهجد في هذه السورة ، كما أمره في قوله تعالى : ( ياأيها المزمل  قم الليل إلا قليلا   ) [ المزمل : 1 ، 2] . ولم  [ ص: 312 ] يجئ ما ينسخه عنه ، وأما قوله تعالى : ( نافلة لك   ) . فلو كان المراد به التطوع ، لم يخصه بكونه نافلة له ، وإنما المراد بالنافلة الزيادة ، ومطلق الزيادة لا يدل على التطوع ، قال تعالى : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة   ) [ الأنبياء : 72 ] ، أي : زيادة على الولد ، وكذلك النافلة في تهجد النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في درجاته ، وفي أجره ، ولهذا خصه بها ، فإن قيام الليل في حق غيره مباح ، ومكفر للسيئات ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فهو يعمل في زيادة الدرجات وعلو المراتب ، وغيره يعمل في التكفير . 
قال مجاهد   : إنما كان نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكانت طاعته نافلة ، أي : زيادة في الثواب ، ولغيره كفارة لذنوبه ، قال ابن المنذر  في تفسيره : حدثنا يعلى بن أبي عبيد  ، حدثنا الحجاج  ، عن  ابن جريج  ، عن  عبد الله بن كثير  ، عن مجاهد  قال : ما سوى المكتوبة ، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل في كفارة الذنوب ، وليست للناس نوافل ، إنما هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، والناس جميعا يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها  . 
حدثنا  محمد بن نصر  ، حدثنا عبد الله  ، حدثنا عمرو  ، عن سعيد  وقبيصة  ، عن سفيان  ، عن أبي عثمان  ، عن الحسن  في قوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك   ) . قال : ( لا تكون نافلة الليل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ) 
وذكر عن الضحاك  ، قال : نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . 
وذكر سليم بن حيان  ، حدثنا أبو غالب  ، حدثنا أبو أمامة  ، قال : إذا وضعت الطهور مواضعه ، قمت مغفورا لك ، فإن قمت تصلي ، كانت لك فضيلة وأجرا ، فقال رجل : يا أبا أمامة  ، أرأيت إن قام يصلي تكون له نافلة ؟ قال : لا ، إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون له نافلة ، وهو يسعى في الذنوب والخطايا ؟! تكون له  [ ص: 313 ] فضيلة وأجرا ) 
قلت : والمقصود أن النافلة في الآية ، لم يرد بها ما يجوز فعله وتركه ، كالمستحب ، والمندوب ، وإنما المراد بها الزيادة في الدرجات ، وهذا قدر مشترك بين الفرض والمستحب ، فلا يكون قوله : ( نافلة لك ) نافيا لما دل عليه الأمر من الوجوب ، وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة إن شاء الله تعالى ، عند ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . 
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا ، وكان إذا غلبه نوم أو وجع ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة . فسمعت  شيخ الإسلام ابن تيمية  يقول : في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى لفوات محله ، فهو كتحية المسجد ، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها ، لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وترا ، كما أن المغرب آخر صلاة النهار ، فإذا انقضى الليل وصليت الصبح ، لم يقع الوتر موقعه . هذا معنى كلامه . 
وقد روى أبو داود  ،  وابن ماجه  من حديث أبي  سعيد الخدري  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نام عن الوتر أو نسيه ، فليصله إذا أصبح أو ذكر  ) ولكن لهذا الحديث عدة علل . 
أحدها : أنه من رواية  عبد الرحمن بن زيد بن أسلم  وهو ضعيف .  [ ص: 314 ] الثاني : أن الصحيح فيه أنه مرسل له عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال  الترمذي   : هذا أصح ، يعني المرسل . 
الثالث : أن  ابن ماجه  حكى عن  محمد بن يحيى  بعد أن روى حديث أبي سعيد   : الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أوتروا قبل أن تصبحوا  ) . قال : فهذا الحديث دليل على أن حديث عبد الرحمن  واه . 
وكان قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ، كما قال  ابن عباس   وعائشة  ، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا ، ففي "الصحيحين" عنها : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة  ) . 
وفي "الصحيحين" عنها أيضا ، ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر من ذلك بخمس ، لا يجلس في شيء إلا في آخرهن  ) . 
والصحيح عن  عائشة  الأول : والركعتان فوق الإحدى عشرة هما ركعتا الفجر جاء ذلك مبينا عنها في هذا الحديث بعينه ، ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث  [ ص: 315 ] عشرة ركعة بركعتي الفجر  ) ذكره  مسلم  في "صحيحه" . وقال  البخاري  في هذا الحديث : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالفجر ركعتين خفيفتين  ) . وفي "الصحيحين" عن  القاسم بن محمد  قال : سمعت  عائشة  رضي الله عنها تقول : ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ، ويوتر بسجدة ، ويركع ركعتي الفجر ، وذلك ثلاث عشرة ركعة  ) فهذا مفسر مبين . 
وأما  ابن عباس  ، فقد اختلف عليه ، ففي "الصحيحين" عن  أبي جمرة  عنه : ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل  ) . لكن قد جاء عنه هذا مفسرا أنها بركعتي الفجر . 
قال  الشعبي   : سألت  عبد الله بن عباس  ،  وعبد الله بن عمر  رضي الله عنهما ، عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، فقالا : ( ثلاث عشرة ركعة ، منها ثمان ، ويوتر بثلاث ، وركعتين قبل صلاة الفجر )  . 
وفي "الصحيحين" عن كريب  عنه ، في قصة مبيته عند خالته  ميمونة بنت الحارث  ، أنه صلى الله عليه وسلم ( صلى ثلاث عشرة ركعة ، ثم نام حتى نفخ ، فلما تبين له الفجر ، صلى ركعتين خفيفتين  ) . وفي لفظ : ( فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن . فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم خرج يصلي الصبح  )  [ ص: 316 ] فقد حصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعة . 
واختلف في الركعتين الأخيرتين : هل هما ركعتا الفجر أو هما غيرهما؟ فإذا انضاف ذلك إلى عدد ركعات الفرض والسنن الراتبة التي كان يحافظ عليها ، جاء مجموع ورده الراتب بالليل والنهار أربعين ركعة ، كان يحافظ عليها دائما سبعة عشر فرضا ، وعشر ركعات ، أو ثنتا عشرة سنة راتبة ، وإحدى عشرة ، أو ثلاث عشرة ركعة قيامه بالليل ، والمجموع أربعون ركعة ، وما زاد على ذلك فعارض غير راتب ، كصلاة الفتح ثمان ركعات ، وصلاة الضحى إذا قدم من سفر ، وصلاته عند من يزوره وتحية المسجد ونحو ذلك ، فينبغي للعبد أن يواظب على هذا الورد دائما إلى الممات ، فما أسرع  [ ص: 317 ] الإجابة وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة . والله المستعان . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					