فصل 
ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر ، إلا في حديث رواه  ابن ماجه  ، عن علي بن ميمون الرقي  ، حدثنا  مخلد بن يزيد  ، عن سفيان  ، عن  زبيد اليامي  ، عن  سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى  ، عن أبيه ، عن  أبي بن كعب  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يوتر فيقنت قبل الركوع  ) 
وقال أحمد  في رواية ابنه عبد الله   : أختار القنوت بعد الركوع ، إن كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت ، إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركوع ، وقنوت الوتر  أختاره بعد الركوع ، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء . وقال الخلال   : أخبرني محمد بن يحيى الكحال  ، أنه قال لأبي عبد الله  في القنوت في الوتر . فقال : ليس يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، ولكن كان عمر  يقنت من السنة إلى السنة . 
وقد روى أحمد  وأهل "السنن" من حديث الحسن بن علي  رضي الله عنهما قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت  ، وقني شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت  ) 
 [ ص: 324 ] زاد  البيهقي   والنسائي   :  "ولا يعز من عاديت  " . 
وزاد  النسائي  في روايته " وصلى الله على النبي  " . 
وزاد الحاكم  في "المستدرك" وقال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود  ) . ورواه  ابن حبان  في "صحيحه" ولفظه : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو  ) . 
قال  الترمذي   : وفي الباب عن علي  رضي الله عنه ، وهذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي ، واسمه ربيعة بن شيبان  ، ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا . انتهى . 
والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر  ،  وابن مسعود  ، والرواية عنهم أصح من القنوت في الفجر  ، والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الفجر ، أصح من الرواية في قنوت الوتر . والله أعلم . 
وقد روى أبو داود   والترمذي   والنسائي  من حديث  علي بن أبي طالب  رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : ( اللهم إني أعوذ  [ ص: 325 ] برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك  ) . وهذا يحتمل ، أنه قبل فراغه منه وبعده ، وفي إحدى الروايات عن  النسائي   : كان يقول إذا فرغ من صلاته ، وتبوأ مضجعه ، وفي هذه الرواية : ( لا أحصي ثناء عليك ولو حرصت  ) . 
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في السجود ، فلعله قاله في الصلاة وبعدها . 
وذكر الحاكم  في "المستدرك" من حديث  ابن عباس  رضي الله عنهما ، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ووتره : ثم أوتر ، فلما قضى صلاته ، سمعته يقول : ( اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، واجعل لي يوم لقائك نورا ) 
قال كريب   : وسبع في القنوت ، فلقيت رجلا من ولد العباس  ، فحدثني بهن ، فذكر "لحمي ودمي ، وعصبي وشعري وبشري" ، وذكر خصلتين ، وفي رواية  النسائي  في هذا الحديث ، وكان يقول في سجوده . 
وفي رواية لمسلم  في هذا الحديث : فخرج إلى الصلاة يعني صلاة الصبح ، وهو يقول . . . فذكر هذا الدعاء ، وفي رواية له أيضا : ( وفي لساني نورا واجعل في نفسي نورا ، وأعظم لي نورا  ) ، وفي رواية له : ( واجعلني نورا  ) 
 [ ص: 326 ] وذكر أبو داود  ،  والنسائي  من حديث  أبي بن كعب  ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ، بـ ( سبح اسم ربك الأعلى   ) و ( قل ياأيها الكافرون   )  و ( قل هو الله أحد   ) ، فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ، ثلاث مرات ، يمد بها صوته في الثالثة ويرفع  ) وهذا لفظ  النسائي   . زاد  الدارقطني   ( رب الملائكة والروح  ) 
وكان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ، ويقف عند كل آية فيقول : ( الحمد لله رب العالمين ، ويقف ، الرحمن الرحيم ، ويقف : مالك يوم الدين  ) 
وذكر  الزهري  أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت آية آية ، وهذا هو الأفضل ، الوقوف على رءوس الآيات  وإن تعلقت بما بعدها ، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد ، والوقوف عند انتهائها ، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته أولى . وممن ذكر ذلك  البيهقي  في "شعب الإيمان" وغيره ، ورجح الوقوف على رءوس الآي وإن تعلقت بما بعدها . 
وكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية يرددها حتى الصباح 
 [ ص: 327 ] وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة ، أو السرعة مع كثرة القراءة : أيهما أفضل؟  على قولين . 
فذهب  ابن مسعود   وابن عباس  رضي الله عنهما وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها .
واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره ، والفقه فيه والعمل به ، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه ، كما قال بعض السلف : ( نزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملا ) ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به ، والعاملون بما فيه ، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب . 
وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه ، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم . 
قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال ، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان ، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر  ، فيفعلها البر والفاجر ، والمؤمن والمنافق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن ، كمثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مر  ) 
والناس في هذا أربع طبقات : أهل القرآن والإيمان ، وهم أفضل الناس . والثانية : من عدم القرآن والإيمان . الثالثة : من أوتي قرآنا ، ولم يؤت إيمانا ، الرابعة : من أوتي إيمانا ولم يؤت قرآنا . 
قالوا : فكما أن من أوتي إيمانا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنا بلا  [ ص: 328 ] إيمان ، فكذلك من أوتي تدبرا ، وفهما في التلاوة أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر . 
قالوا : وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها ، وقام بآية حتى الصباح . 
وقال أصحاب  الشافعي  رحمه الله : كثرة القراءة أفضل  ، واحتجوا بحديث  ابن مسعود  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حرفا من كتاب الله ، فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف  ) . رواه  الترمذي  وصححه . 
قالوا : ولأن  عثمان بن عفان  قرأ القرآن في ركعة ، وذكروا آثارا عن كثير من السلف في كثرة القراءة . 
والصواب في المسألة أن يقال : إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا ، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا ، فالأول : كمن تصدق بجوهرة عظيمة ، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا ، والثاني : كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم ، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة . 
وفي "صحيح  البخاري   " عن قتادة  قال : سألت أنسا  عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( كان يمد مدا ) 
وقال شعبة   : حدثنا  أبو جمرة  ، قال : قلت  لابن عباس   : إني رجل سريع القراءة ، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين ، فقال  ابن عباس   : (لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل ، فإن كنت فاعلا ولا بد ، فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ، ويعيها قلبك) 
 [ ص: 329 ] وقال إبراهيم   : قرأ علقمة  على  ابن مسعود  ، وكان حسن الصوت ، فقال : رتل فداك أبي وأمي ، فإنه زين القرآن  . 
وقال  ابن مسعود   : ( لا تهذوا القرآن هذ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل ، وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ) 
وقال عبد الله  أيضا : ( إذا سمعت الله يقول : ( ياأيها الذين آمنوا   ) فأصغ لها سمعك ، فإنه خير تؤمر به ، أو شر تصرف عنه)  . 
وقال  عبد الرحمن بن أبي ليلى   : دخلت علي امرأة وأنا أقرأ ( سورة هود) فقالت : يا عبد الرحمن   : هكذا تقرأ سورة هود؟! والله إني فيها منذ ستة أشهر وما فرغت من قراءتها  . 
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر بالقراءة في صلاة الليل تارة ، ويجهر بها تارة  ، ويطيل القيام تارة ، ويخففه تارة ، ويوتر آخر الليل   - وهو الأكثر - وأوله تارة ، وأوسطه تارة . 
وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر  قبل أي جهة توجهت به ، فيركع ويسجد عليها إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، وقد روى أحمد  وأبو داود  عن  أنس بن مالك  ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا ، استقبل القبلة ، فكبر للصلاة ، ثم خلى عن راحلته ، ثم صلى أينما توجهت به  ) . فاختلف الرواة عن أحمد   : هل يلزمه أن يفعل ذلك إذا قدر عليه؟ على روايتين : فإن أمكنه الاستدارة إلى القبلة في صلاته كلها مثل أن يكون في محمل أو عمارية ونحوها ، فهل يلزمه ، أو  [ ص: 330 ] يجوز له أن يصلي حيث توجهت به الراحلة؟ فروى محمد بن الحكم  عن أحمد  فيمن صلى في محمل : أنه لا يجزئه إلا أن يستقبل القبلة ، لأنه يمكنه أن يدور ، وصاحب الراحلة والدابة لا يمكنه . وروى عنه أبو طالب  أنه قال : الاستدارة في المحمل شديدة يصلي حيث كان وجهه . 
واختلفت الرواية عنه في السجود في المحمل  فروى عنه ابنه عبد الله  أنه قال : وإن كان محملا فقدر أن يسجد في المحمل ، فيسجد . 
وروى عنه الميموني  ، إذا صلى في المحمل أحب إلي أن يسجد ، لأنه يمكنه . وروى عنه الفضل بن زياد   : يسجد في المحمل إذا أمكنه . وروى عنه  جعفر بن محمد   : السجود على المرفقة إذا كان في المحمل ، وربما أسند على البعير ، ولكن يومئ ويجعل السجود أخفض من الروع ، وكذا روى عنه أبو داود   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					