واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة ، فالأول : ما يتعلق بالدنيا وهو قوله : 
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون    ) . 
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر    ) . 
واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولا في الخمر ثم في الميسر : 
أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم ، فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد ; لأن الخمر يزيل العقل ، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل ، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب ، وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش ، وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء ، فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة ، وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء . 
وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الإجحاف بأرباب الأموال ; لأن من صار مغلوبا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالبا فيه ، وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال ، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده ، ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيرا مسكينا ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له ، فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس ، ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن ، وكل ذلك مضاد لمصالح العالم . 
 [ ص: 68 ] فإن قيل : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية ؟ 
قلنا : لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال : ( ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر    ) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيدا لقبح الخمر والميسر ، لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر . 
أما النوع الثاني من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر : المفاسد المتعلقة بالدين ، وهو قوله تعالى : ( ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة    ) فنقول : أما أن شرب الخمر يمنع ذكر الله فظاهر ، لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية ، والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله تعالى ، وأما أن الميسر مانع عن ذكر الله وعن الصلاة فكذلك ، لأنه إن كان غالبا صار استغراقه في لذة الغلبة مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه ، ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة . 
فإن قيل : الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر  هي هذه المعاني ، ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلا وهذا يقدح في صحة هذا التعليل . 
قلنا : هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة . 
ولما بين تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين ، قال تعالى : ( فهل أنتم منتهون    ) روي أنه لما نزل قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى    ) [النساء : 43] قال  عمر بن الخطاب  رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فلما نزلت هذه الآية قال عمر    : انتهينا يا رب   . 
واعلم أن هذا وإن كان استفهاما في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة ، وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب ، فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الإقرار بالترك ، فكأنه قيل له : أتفعله بعدما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر ؟ فصار قوله : ( فهل أنتم منتهون    ) جاريا مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقرونا بإقرار المكلف بوجوب الانتهاء . 
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر  من وجوه : 
دها : تصدير الجملة بإنما ، وذلك لأن هذه الكلمة للحصر ، فكأنه تعالى قال : لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة . 
ثانيها : أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " شارب الخمر كعابد الوثن    " . 
وثالثها : أنه تعالى أمر بالاجتناب ، وظاهر الأمر للوجوب . 
ورابعها : أنه قال : ( لعلكم تفلحون    ) جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة . 
وخامسها : أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين ، وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الإعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة . 
وسادسها : قوله : ( فهل أنتم منتهون    ) وهو من أبلغ ما ينتهى به ، كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف ؟ أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ ؟ 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					