( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون    ) 
قوله تعالى ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون    ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع ، وتقرير المعاد وتقرير النبوة    . وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها ، ومتى كان كذلك ، فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لا بد وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصه بتلك الصفة المعينة ، فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى    . 
وإذا ثبت هذا ، ثبت كونه قادرا على الإعادة والحشر والنشر ، لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات ، وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما ، فوجب صحة الإعادة ثانيا . وأيضا ثبت أنه تعالى ملك مطاع ، والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده ، ولا بد من مبلغ ، وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع    . فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة . ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة ، ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم . 
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( قل لمن ما في السماوات والأرض    ) سؤال . وقوله : ( قل لله ) جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا . وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع . ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها ، لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته ، لا جرم أمره بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا ؛ ليدل ذلك على أن الإقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة . وأيضا فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله ، وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله    ) [ لقمان : 25 ] ثم إنه   [ ص: 137 ] تعالى لما بين بهذا الطريق كمال إلهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية ، أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال : ( كتب على نفسه الرحمة    ) فكأنه تعالى قال : إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بد أن يعد بالإنعام ، بل أبدا ينعم وأبدا يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم . واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم : تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا . وقيل : إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم . 
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما فرغ الله من الخلق كتب كتابا أن رحمتي سبقت غضبي   " . 
فإن قيل : الرحمة هي إرادة الخير ، والغضب هو إرادة الانتقام ، وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى ، والمسبوق بالغير محدث ، فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة . 
قلنا : المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان . وعن سلمان  أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة ، كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض ، فعنده تسع وتسعون رحمة ، وقسم رحمة واحدة بين الخلائق ، فبها يتعاطفون ويتراحمون ، فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين   . 
أما قوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة    ) ففيه أبحاث : 
الأول : " اللام " في قوله : ( ليجمعنكم ) لام قسم مضمر ، والتقدير : والله ليجمعنكم . 
البحث الثاني : اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله . فقال بعضهم إنه كلام مبتدأ ، وذلك لأنه تعالى بين كمال إلهيته بقوله : ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله    ) ثم بين تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالإمهال ودفع عذاب الاستئصال ، وبين أنه يجمعهم إلى يوم القيامة ، فقوله : ( كتب على نفسه الرحمة    ) أنه يمهلهم وقوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة    ) أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا . 
والقول الثاني : أنه متعلق بما قبله والتقدير : كتب ربكم على نفسه الرحمة . وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة . 
وقيل : إنه لما قال : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة    ) فكأنه قيل : وما تلك الرحمة ؟ فقيل : إنه تعالى ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة    ) وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم القيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط ، فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا ، فكان قوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة    ) كالتفسير لقوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة    ) . 
البحث الثالث : أن قوله : ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله    ) كلام ورد على لفظ الغيبة . وقوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة    ) كلام ورد على سبيل المخاطبة . والمقصود منه التأكيد في التهديد ، كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السماوات والأرض لله وملكه ، وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا   [ ص: 138 ] يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها ، فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل ؟ 
البحث الرابع : أن كلمة : ( إلى يوم القيامة ) فيها أقوال : 
الأول : أنها صلة والتقدير : ليجمعنكم يوم القيامة . وقيل : ( إلى ) بمعنى في ، أي ليجمعنكم في يوم القيامة . 
وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة ، لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان . وقيل : ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة . 
أما قوله : ( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون    ) ففيه أبحاث : 
الأول : في هذه الآية قولان : 
الأول : أن قوله : ( الذين ) موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله : ( ليجمعنكم ) والمعنى ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش    . 
والثاني : وهو قول الزجاج  ، أن قوله : ( الذين خسروا أنفسهم    ) رفع بالابتداء ، وقوله : ( فهم لا يؤمنون    ) خبره ، لأن قوله : ( ليجمعنكم    ) مشتمل على الكل ، على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم " والفاء " في قوله : ( فهم ) يفيد معنى الشرط والجزاء ، كقولهم : الذي يكرمني فله درهم ، لأن الدرهم وجب بالإكرام فكان الإكرام شرطا والدرهم جزاء . 
فإن قيل : ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم ، والأمر على العكس . 
قلنا : هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان ، هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان ، وذلك عين مذهب أهل السنة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					