[ ص: 140 ] ثم قال ( فاطر السماوات والأرض    ) وقرئ " فاطر السماوات " بالجر صفة لله ، وبالرفع على إضمار هو ، والنصب على المدح . وقرأ  الزهري    : " فطر السماوات " وعن  ابن عباس    : ما عرفت " فاطر السماوات    " حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها   . وقال  ابن الأنباري    : أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه ، فقوله : ( فاطر السماوات والأرض    ) يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض ، فلما كان الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح ، وفي حال أخرى شق إفساد . ففاطر السماوات من الإصلاح لا غير . وقوله : ( هل ترى من فطور    ) [ الملك : 3 ] و ( إذا السماء انفطرت    ) [ الانفطار : 1 ] من الإفساد ، وأصلهما واحد . 
ثم قال تعالى : ( وهو يطعم ولا يطعم    ) أي وهو الرزاق لغيره ولا يرزقه أحد . 
فإن قيل : كيف فسرت الإطعام بالرزق ، وقد قال تعالى : ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون    ) [ الذاريات : 57 ] والعطف يوجب المغايرة ؟ 
قلنا : لا شك في حصول المغايرة بينهما ، إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة . والمقصود من الآية : أن المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . وقرئ " ولا يطعم " بفتح الياء ، وروى ابن المأمون  عن يعقوب    : " وهو يطعم ولا يطعم " على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، وعلى هذا التقدير : فالضمير عائد إلى المذكور في قوله : ( أغير الله ) وقرأ الأشهب    " وهو يطعم ولا يطعم " على بنائهما للفاعل ، وفسر بأن معناه : وهو يطعم ولا يستطعم . وحكى الأزهري    : أطعمت بمعنى استطعمت . ويجوز أن يكون المعنى : وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله : وهو يعطي ويمنع ، ويبسط ويقدر ، ويغني ويفقر . 
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا    . واحتج عليه بأنه فاطر السماوات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم . ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا . أما بيان أنه فاطر السماوات والأرض ، فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره ، فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه . فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات  وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهرة ؛ لأن الإطعام عبارة عن إيصال المنافع ، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع . ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر . فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السماوات والأرض ، وصحة أنه يطعم ولا يطعم ، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا ، لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده . والحق سبحانه هو الغني لذاته  ، الجواد لذاته . وترك الغني الجواد ، والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل . 
وإذا عرفت هذا فنقول : قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة : هو القريب . وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه . فقوله : ( قل أغير الله أتخذ وليا    ) يمنع من القرب من غير الله تعالى . فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى ، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى    . 
ثم قال تعالى ( قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم    ) والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الإسلام   [ ص: 141 ] لقوله : ( وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين    ) [ الأنعام : 163 ] ولقول موسى    ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين    ) [ الأعراف : 143 ] 
ثم قال : ( ولا تكونن من المشركين    ) ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك . ثم إنه تعالى لما بين كون رسوله مأمورا بالإسلام ثم عقبه بكونه منهيا عن الشرك قال بعده : ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم    ) والمقصود أني إن خالفته في هذا الأمر والنهي صرت مستحقا للعذاب العظيم . 
فإن قيل : قوله : ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم    ) يدل على أنه عليه السلام كان يخاف على نفسه من الكفر والعصيان ، ولولا أن ذلك جائز عليه لما كان خائفا . 
والجواب : أن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه ، بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف . وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف ، ومثاله قولنا : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين ، وهذا يدل على أن الخمسة زوج ، ولا على كونها منقسمة بمتساويين والله أعلم . 
وقوله تعالى : ( إني أخاف    ) قرأ ابن كثير  ونافع    ( إني ) بفتح الياء . وقرأ أبو عمرو  والباقون بالإرسال . 
				
						
						
