[ ص: 190 ]   ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون    ) 
قوله تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون    ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله : ( لولا نزل عليه آية من ربه    ) [ الأنعام : 37 ] فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام ، إنما بعثت مبشرا ومنذرا ، وليس لي أن أتحكم على الله تعالى ، وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة : 
أولها : قوله : ( لا أقول لكم عندي خزائن الله    ) فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند الله ، فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها ، ويفتح علينا أبواب سعادتها . فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله ، فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه ، بحيث لا تناله الأيدي . 
وثانيها : قوله : ( ولا أعلم الغيب    ) ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولا من عند الله فلا بد وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار ، حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح ، ولدفع تلك المضار . فقال تعالى : قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب ؟ 
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة ، وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الإخبار عن الغيوب ، ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد . وثالثها : قوله : ( ولا أقول لكم إني ملك    ) ومعناه أن القوم كانوا يقولون : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق    ) [ الفرقان : 7 ] ويتزوج ويخالط الناس . فقال تعالى : قل لهم إني لست من الملائكة . 
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة ؟ 
فالقول الأول : أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه التواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته ، حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى  في المسيح  عليه السلام . 
والقول الثاني : أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية ، كقولهم ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا    ) [ الإسراء : 90 ] إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا    ) [ الإسراء : 93 ] يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوة ، وأما هذه الأمور التي طلبتموها ، فلا يمكن تحصيلها إلا بقدرة الله ، فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه . 
 [ ص: 191 ] والقول الثالث : أن المراد من قوله : ( لا أقول لكم عندي خزائن الله    ) معناه أني لا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالإله تعالى . وقوله : ( ولا أعلم الغيب    ) أي ولا أدعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى . وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية . 
ثم قال : ( ولا أقول لكم إني ملك    ) وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالا من الملائكة ، فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة ، وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر ، فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي ؟ 
المسألة الثانية : قال الجبائي    : الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء  ، لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك . قال القاضي : إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع ؛ فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة ، لم يدل على كونهم أفضل . 
المسألة الثالثة : قوله : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي    ) ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين . 
الحكم الأول : 
أن هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام  وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ، ويتأكد هذا بقوله : ( وما ينطق عن الهوى  إن هو إلا وحي يوحى    ) [ النجم : 3 ، 4 ] . 
الحكم الثاني : 
أن نفاة القياس قالوا : ثبت بهذا النص أنه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه ، لقوله تعالى : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وذلك ينفي جواز العمل بالقياس ، ثم أكد هذا الكلام بقوله : ( قل هل يستوي الأعمى والبصير    ) وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير    . 
ثم قال : ( أفلا تتفكرون    ) والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلا عن معرفته ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					