( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق  ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد    ) 
قوله تعالى :( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق  ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد    ) . 
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت ، وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر  وحده " إذ تتوفى " بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع  ، والباقون بالياء على المعنى . 
المسألة الثانية : جواب " لو " محذوف ، والتقدير : لرأيت منظرا هائلا ، وأمرا فظيعا ، وعذابا شديدا . 
المسألة الثالثة : " ولو ترى " ولو عاينت وشاهدت ؛ لأن "لو" ترد المضارع إلى الماضي كما ترد "إن" الماضي إلى المضارع . 
المسألة الرابعة : الملائكة رفعها بالفعل ، ويضربون حال منهم ، ويجوز أن يكون في قوله :( يتوفى    ) ضمير لله تعالى ، والملائكة مرفوعة بالابتداء ، ويضربون خبر . 
المسألة الخامسة : قال الواحدي    : معنى يتوفى الذين كفروا يقبضون أرواحهم على استيفائها وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ، وأنه هو الروح فقط ؛ لأن قوله :( يتوفى الذين كفروا    ) يدل على أنه استوفى الذات الكافرة ، وذلك يدل على أن الذات الكافرة هي التي استوفيت من هذا الجسد ، وهذا برهان ظاهر على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ، وقوله :( يضربون وجوههم وأدبارهم    )  قال  ابن عباس    : كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف ، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم ، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح ، وأقول : فيه معنى آخر ألطف منه ، وهو أن روح الكافر إذا خرج من جسده فهو معرض عن عالم الدنيا مقبل على الآخرة ، وهو لكفره لا يشاهد في عالم الآخرة إلا الظلمات ، وهو لشدة حبه للجسمانيات ، ومفارقته لها لا ينال من مباعدته عنها إلا الآلام والحسرات ، فبسبب مفارقته لعالم الدنيا تحصل له الآلام بعد الآلام والحسرات ، وبسبب إقباله على الآخرة مع عدم النور والمعرفة ، ينتقل من ظلمات إلى ظلمات ، فهاتان الجهتان هما المراد من قوله :( يضربون وجوههم وأدبارهم    ) . 
ثم قال تعالى :( وذوقوا عذاب الحريق    ) وفيه إضمار ، والتقدير : ونقول : ذوقوا عذاب الحريق ، ونظيره في القرآن كثير ، قال تعالى :( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا    ) [البقرة : 127] أي ويقولان : ربنا ، وكذا قوله تعالى :( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا    ) [السجدة : 12] أي يقولون : ربنا ، قال  ابن عباس    : قول الملائكة لهم :( وذوقوا عذاب الحريق    ) إنما صح لأنه كان مع الملائكة   [ ص: 143 ] مقامع ، وكلما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء والأبعاض ، فذاك قوله :( وذوقوا عذاب الحريق    ) قال الواحدي    : والصحيح أن هذا تقوله الملائكة لهم في الآخرة ، وأقول : أما العذاب الجسماني فحق وصدق ، وأما الروحاني فحق أيضا لدلالة العقل عليه ، وذلك لأنا بينا أن الجاهل إذا فارق الدنيا حصل له الحزن الشديد بسبب مفارقة الدنيا المحبوبة ، والخوف الشديد بسبب تراكم الظلمات عليه في عالم الخوف والحزن ، والخوف والحزن كلاهما يوجبان الحرقة الروحانية ، والنار الروحانية . 
ثم قال تعالى :( ذلك بما قدمت أيديكم    ) قيل : هذا إخبار عن قول الملائكة ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قال الواحدي    : يجوز أن يقال ذلك مبتدأ ، وخبره قوله :( بما قدمت أيديكم    ) ويجوز أن يكون محل ذلك نصبا ، والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم . 
المسألة الثانية : المراد من قوله :( ذلك    ) هذا ، أي هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق ، حصل بسبب ما قدمت أيديكم ، وذكرنا في قوله :( الم  ذلك الكتاب    ) [البقرة : 1 ، 2] أن معناه هذا الكتاب ، وهذا المعنى جائز . 
المسألة الثالثة : ظاهر قوله :( ذلك بما قدمت    ) يقتضي أن فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك ممتنع من وجوه : 
أحدها : أن هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد . 
وثانيها : أن اليد ليست محلا للمعرفة والعلم ، فلا يتوجه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصال العذاب إليها ، فوجب حمل اليد ههنا على القدرة ، وسبب هذا المجاز أن اليد آلة العمل ، والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة . 
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعال وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي ، وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان . 
المسألة الرابعة : قوله :( ذلك بما قدمت أيديكم    ) يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه ، وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتسبها الإنسان  ، ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان ، فكان هذا الكلام مطابقا للمعقول . 
ثم قال تعالى :( وأن الله ليس بظلام للعبيد    ) ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : في محل "أن"  وجهان : 
أحدهما : النصب بنزع الخافض يعني بأن الله . 
والثاني : أنك إن جعلت قوله :( ذلك    ) في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضا ، بمعنى وذلك أن الله ، قال الكسائي    : ولو كسرت ألف "أن" على الابتداء كان صوابا ، وعلى هذا التقدير يكون هذا كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله . 
المسألة الثانية : قالت المعتزلة    : لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالما ، وأيضا قوله تعالى :( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد    ) يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالما بهذا العذاب ؛ لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان الله تعالى ظالما في هذا العذاب ، فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالما ، وأيضا تدل هذه الآية على كونه قادرا على الظلم ، إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة . 
 [ ص: 144 ] واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران ، فلا فائدة في الإعادة ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					