المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28785_28783الضلال والهداية من الله تعالى ، والآية صريحة في هذا المعنى ، قال الأصحاب : ومما يؤكد هذا المعنى ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013013أن [ ص: 64 ] أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال عليه السلام "ما هذا؟ " فقال بعضهم : يا رسول الله يقول أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ، ويقول عمر كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر ، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ، ثم قال : "أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل ، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر ، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر ، فقضاء إسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى ، وهذا قضائي بينكما ". قالت
المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) والمعنى : أنا إنما أرسلنا
nindex.php?page=treesubj&link=31781كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم ، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل ، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين ، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائما لهذا المقصود.
والثاني : أنه عليه السلام إذا قال لهم : إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم ، فلهم أن يقولوا له : فما الفائدة في بيانك ، وما المقصود من إرسالك ، وهل يمكننا أن نزيل كفرا خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل.
الثالث : أنه إذا كان الكفر حاصلا بتخليق الله تعالى ومشيئته ، وجب أن يكون الرضا به واجبا ؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وذلك لا يقوله عاقل.
والرابع : أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=1لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) يدل على مذهب العدل ، وأيضا مؤخرة الآية يدل عليه ، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وهو العزيز الحكيم ) فكيف يكون حكيما من كان خالقا للكفر والقبائح ومريدا لها؟ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل. وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) [البقرة : 26] ولا بأس بإعادة بعضها :
فالأول : أن المراد بالإضلال : هو الحكم بكونه كافرا ضالا ، كما يقال : فلان يكفر فلانا ويضلله ، أي يحكم بكونه كافرا ضالا.
والثاني : أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار ، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة.
والثالث : أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله ، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه ، قال صاحب "الكشاف" : المراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف ، وبالهداية التوفيق واللطف.
والجواب عن قولهم : أولا أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4ليبين لهم ) لا يليق به أن يضلهم.
قلنا : قال
الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر ، فإن كان الفعل الثاني مشاكلا للأول نسقته عليه ، وإن لم يكن مشاكلا له استأنفته ورفعته ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله ) [التوبة : 32] فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32ويأبى الله ) [التوبة : 32] في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ؛ لأنه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ، ونظيره أيضا قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5لنبين لكم ونقر في الأرحام ) [الحج : 5] ومن ذلك قولهم : أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ، ومثله قول الشاعر :
[ ص: 65 ] يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4ليبين لهم ) ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4فيضل الله من يشاء ) ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وأقول : تقرير هذا الكلام من حيث المعنى ، كأنه تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ؛ ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال : ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية ، وربما ضعف البيان وحصلت الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى .
أما قوله ثانيا : لو كان الضلال حاصلا بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول له : ما الفائدة في بيانك ودعوتك ؟ فنقول : يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالا ، فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافرا فإن آمنت صار إلهك كاذبا ، فهل أقدر على جعل إلهك كاذبا ؟ وهل أقدر على جعل علمه جهلا ؟ وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان ؟ فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضا وارد عليه .
وأما قوله ثالثا : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجبا ؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
قلنا : ويلزمك أيضا على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله ، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا ؛ لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا .
وأما قوله رابعا : إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=1لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) يدل على صحة الاعتزال ؛ فنقول : قد ذكرنا أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=1بإذن ربهم ) يدل على صحة مذهب أهل السنة .
وأما قوله خامسا : أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيما وذلك ينافي كونه تعالى خالقا للكفر مريدا له . فنقول : وقد وصف نفسه بكونه عزيزا والعزيز هو الغالب القاهر ، فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم وقد حصل ، لما بقي عزيزا غالبا . فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مرارا فلا فائدة في الإعادة .
المسألة الرَّابِعَةُ : تَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28785_28783الضَّلَالَ وَالْهِدَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، قَالَ الْأَصْحَابُ : وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013013أَنَّ [ ص: 64 ] أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَقْبَلَا فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ "مَا هَذَا؟ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : الْحَسَنَاتُ مِنَ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتُ مِنْ أَنْفُسِنَا ، وَيَقُولُ عُمَرُ كِلَاهُمَا مِنَ اللَّهِ ، وَتَبِعَ بَعْضُهُمْ أَبَا بَكْرٍ وَبَعْضُهُمْ عُمَرَ ، فَتَعَرَّفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ فَتَعَرَّفَ مَا قَالَهُ وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ ، ثم قال : "أَقْضِي بَيْنَكُمَا كَمَا قَضَى بِهِ إِسْرَافِيلُ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، قَالَ جِبْرِيلُ مِثْلَ مَقَالَتِكَ يَا عُمَرُ ، وَقَالَ مِيكَائِيلُ مِثْلَ مَقَالَتِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَقَضَاءُ إِسْرَافِيلَ أَنَّ الْقَدَرَ كُلَّهُ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا قَضَائِي بَيْنَكُمَا ". قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) وَالْمَعْنَى : أَنَّا إِنَّمَا أَرْسَلْنَا
nindex.php?page=treesubj&link=31781كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفَ بِلِسَانِهِمْ ، فَيَكُونَ إِدْرَاكُهُمْ لِذَلِكَ الْبَيَانِ أَسْهَلَ وَوُقُوفُهُمْ عَلَى الْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ أَكْمَلَ ، وَهَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ حُصُولَ الْإِيمَانِ لِلْمُكَلَّفِينَ ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ الْإِضْلَالَ وَخَلْقَ الْكُفْرِ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْكَلَامُ مُلَائِمًا لِهَذَا الْمَقْصُودِ.
وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا قَالَ لَهُمْ : إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيكُمْ ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ : فَمَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِكَ ، وَمَا الْمَقْصُودُ مِنْ إِرْسَالِكَ ، وَهَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نُزِيلَ كُفْرًا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِينَا عَنْ أَنْفُسِنَا؟ وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ دَعْوَةُ النُّبُوَّةِ وَتَفْسُدُ بِعْثَةُ الرُّسُلِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا بِهِ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ.
وَالرَّابِعُ : أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مُقَدِّمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=1لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْعَدْلِ ، وَأَيْضًا مُؤَخِّرَةُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَكَيْفَ يَكُونُ حَكِيمًا مَنْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْقَبَائِحِ وَمُرِيدًا لَهَا؟ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْعَبْدِ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ. وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا مَا فِي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) [الْبَقَرَةِ : 26] وَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ بَعْضِهَا :
فَالْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضْلَالِ : هُوَ الحكم بِكَوْنِهِ كَافِرًا ضَالًّا ، كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ يُكَفِّرُ فُلَانًا وَيُضَلِّلُهُ ، أَيْ يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ كَافِرًا ضَالًّا.
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْإِضْلَالُ عِبَارَةً عَنِ الذَّهَابِ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ ، وَالْهِدَايَةُ عِبَارَةً عَنْ إِرْشَادِهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ.
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَرَكَ الضَّالَّ عَلَى إِضْلَالِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ صَارَ كَأَنَّهُ أَضَلَّهُ ، وَالْمُهْتَدِي لَمَّا أَعَانَهُ بِالْأَلْطَافِ صَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي هَدَاهُ ، قَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" : الْمُرَادُ بِالْإِضْلَالِ : التَّخْلِيَةُ وَمَنْعُ الْأَلْطَافِ ، وَبِالْهِدَايَةِ التَّوْفِيقُ وَاللُّطْفُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ : أَوَّلًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُضِلَّهُمْ.
قُلْنَا : قَالَ
الْفَرَّاءُ : إِذَا ذُكِرَ فِعْلٌ وَبَعْدَهُ فِعْلٌ آخَرُ ، فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ الثَّانِي مُشَاكِلًا لِلْأَوَّلِ نَسَقْتَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَاكِلًا لَهُ اسْتَأْنَفْتَهُ وَرَفَعْتَهُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ ) [التَّوْبَةِ : 32] فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32وَيَأْبَى اللَّهُ ) [التَّوْبَةِ : 32] فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ : يُرِيدُونَ أَنْ يَأْبَى اللَّهُ ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ وَضْعُ الثَّانِي مَوْضِعَ الْأَوَّلِ بَطَلَ الْعَطْفُ ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ ) [الْحَجِّ : 5] وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : أَرَدْتُ أَنْ أَزُورَكَ فَيَمْنَعُنِي الْمَطَرُ بِالرَّفْعِ غَيْرَ مَنْسُوقٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
[ ص: 65 ] يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : هَهُنَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ) ذَكَرَ فَيُضِلُّ بِالرَّفْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَأَقُولُ : تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ؛ لِيَكُونَ بَيَانُهُ لَهُمْ تِلْكَ الشَّرَائِعَ بِلِسَانِهِمُ الَّذِي أَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ ، ثم قال : وَمَعَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَقْوِيَةَ الْبَيَانِ لَا تُوجِبُ حُصُولَ الْهِدَايَةِ فَرُبَّمَا قَوِيَ الْبَيَانُ وَلَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ ، وَرُبَّمَا ضَعُفَ الْبَيَانُ وَحَصَلَتِ الْهِدَايَةُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .
أما قوله ثَانِيًا : لَوْ كَانَ الضَّلَالُ حَاصِلًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَكَانَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : مَا الْفَائِدَةُ فِي بَيَانِكَ وَدَعْوَتِكَ ؟ فَنَقُولُ : يُعَارِضُهُ أَنَّ الْخَصْمَ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ ضَالًّا ، فَيَقُولُ لَهُ الْكَافِرُ : لَمَّا أَخْبَرَ إِلَهُكَ عَنْ كَوْنِي كَافِرًا فَإِنْ آمَنْتُ صَارَ إِلَهُكَ كَاذِبًا ، فَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى جَعْلِ إِلَهِكَ كَاذِبًا ؟ وَهَلْ أَقْدِرُ عَلَى جَعْلِ عِلْمِهِ جَهْلًا ؟ وَإِذَا لَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنِي بِهَذَا الْإِيمَانِ ؟ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْخَصْمُ عَلَيْنَا هُوَ أَيْضًا وَارِدٌ عَلَيْهِ .
وَأما قوله ثَالِثًا : يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ .
قُلْنَا : وَيَلْزَمُكَ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السَّعْيُ فِي تَكْذِيبِ اللَّهِ وَفِي تَجْهِيلِهِ ، وَهَذَا أَشَدُّ اسْتِحَالَةً مِمَّا أَلْزَمْتَهُ عَلَيْنَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِهِ وَعَلِمَ كُفْرَهُ فَإِزَالَةُ الْكُفْرِ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ قَلْبَ عِلْمِهِ جَهْلًا وَخَبَرِهِ الصِّدْقِ كَذِبًا .
وَأما قوله رَابِعًا : إِنَّ مُقَدِّمَةَ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=1لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِزَالِ ؛ فَنَقُولُ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=1بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَأما قوله خَامِسًا : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ حَكِيمًا وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْكُفْرِ مُرِيدًا لَهُ . فَنَقُولُ : وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ عَزِيزًا وَالْعَزِيزُ هُوَ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ ، فَلَوْ أَرَادَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ أَوْ أَرَادَ عَمَلَ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَقَدْ حَصَلَ ، لَمَا بَقِيَ عَزِيزًا غَالِبًا . فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا ضَعِيفَةٌ ، وَأَمَّا التَّأْوِيلَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَقَدْ مَرَّ إِبْطَالُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ .