[ ص: 69 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) .
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) .
اعلم أن
موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة ، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد ، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة ، بين بعده أن
nindex.php?page=treesubj&link=19614_30502منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران ، أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران ، فلا جرم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود ، والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=6إن الله لغني ) وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته ، فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنيا ، وقد فرضناه غنيا ، هذا خلف ، فثبت أن كونه غنيا يوجب كونه واجب الوجود في ذاته ، وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته ، كان أيضا واجب الوجود بحسب جميع كمالاته ، إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال ، لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل ، فحينئذ لا يكون غنيا ، وقد فرضناه غنيا ، هذا خلف ، فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته ، وإذا كان الأمر كذلك كان حميدا لذاته ؛ لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد ، فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنيا حميدا يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين ، ولا ينتقص بكفران الكافرين ، فلهذا المعنى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) وهذه المعاني من لطائف الأسرار .
واعلم أن قولنا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا ) سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر ، فالمعنى لا يتفاوت البتة ، فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله .
ثم إنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود ) وذكر
أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطابا من
موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان
موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى ، والمقصود إنما هو
nindex.php?page=treesubj&link=32016حصول العبرة بأحوال المتقدمين ، وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 70 ] واعلم أنه تعالى ذكر أقواما ثلاثة ، وهم :
قوم نوح وعاد وثمود .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) وذكر صاحب " الكشاف " فيه احتمالين :
الأول : أن يكون قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا .
والثاني : أن يقال : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9والذين من بعدهم ) معطوف على
قوم نوح وعاد وثمود وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9لا يعلمهم إلا الله ) فيه قولان :
القول الأول : أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله ، لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل .
والقول الثاني : أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلا كذبوا رسلا لم نعرفهم أصلا ، ولا يعلمهم إلا الله ، والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى
آدم عليه السلام ، كان
ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : بين
عدنان وبين
إسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=38وقرونا بين ذلك كثيرا ) [ الفرقان : 38 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=78منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) [ غافر : 78 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان في انتسابه لا يجاوز
معد بن عدنان بن أدد . وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013014تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق " قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن
آدم عليه السلام إلى هذا الوقت ؛ لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضا تحصيل العلم بالأنساب الموصولة .
فإن قيل : أي القولين أولى ؟
قلنا : القول الثاني عندي أقرب ، لأن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9لا يعلمهم إلا الله ) نفى العلم بهم ، وذلك يقتضي نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة ، وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم ، ولما كان ظاهر الآية دليلا على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني ، ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور :
أولها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فردوا أيديهم في أفواههم ) وفي معناه قولان :
الأول : أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان .
والثاني : أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازا وتوسعا . أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يكون الضمير في (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أيديهم ) و (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أفواههم ) عائدا إلى الكفار ، وعلى هذا ففيه احتمالات :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=30549_30554الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=119عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) [ آل عمران : 119 ] وهذا القول مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود رحمهما الله تعالى ، وهو اختيار القاضي .
والثاني : أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية ، فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك فوضع يده على فيه .
والثالث : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث ، وهذا مروي عن
الكلبي .
والرابع : أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم : إنا كفرنا بما أرسلتم به ؛ أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه ، وليس
[ ص: 71 ] عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ، ألا ترى إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) .
الوجه الثاني : أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان :
الأول : أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم .
الثاني : أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلاما عند قوم وأنكروه وخافهم فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة .
الوجه الثالث : أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان :
الأول : أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيبا لهم وردا عليهم .
والثاني : أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعا لهم من الكلام ، ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك . أما على القول الثاني : وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه :
الوجه الأول : قال
أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم والإنعام يسمى يدا . يقال : لفلان عندي يد إذا أولاه معروفا ، وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) [ الفتح : 10 ] فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد ، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي ، فثبت أن
nindex.php?page=treesubj&link=31782_28914_34077بينات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي ، وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظيره قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=15إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) [ النور : 15 ] فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه ، فهذا تمام كلام
أبي مسلم في تقرير هذا الوجه .
الوجه الثاني : نقل
nindex.php?page=showalam&ids=16935محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فردوا أيديهم في أفواههم ) أنهم سكتوا عن الجواب ، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : رد يده في فيه . وتقول العرب : كلمت فلانا في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب ، ثم إنه زيف هذا الوجه وقال : إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9إنا كفرنا بما أرسلتم به ) .
الوجه الثالث : المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال ، فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فردوا أيديهم في أفواههم ) أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل " في " على معنى الباء ؛ لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض .
النوع الثاني : من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9إنا كفرنا بما أرسلتم به ) والمعنى : إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه ؛ لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا .
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا إسكات الأنبياء
[ ص: 72 ] عن تلك الدعوى ، وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة .
والنوع الثالث : قولهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) قال صاحب " الكشاف " : وقرئ " تدعونا " بإدغام النون . (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9مريب ) موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه ، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر .
فإن قيل : لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم ؟
قلنا : كأنهم قالوا : إما أن نكون كافرين برسالتكم أو إن لم ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم ، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم . والله أعلم .
[ ص: 69 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) .
اعْلَمْ أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالشُّكْرِ يُوجِبُ تَزَايُدَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَالِاشْتِغَالَ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ يُوجِبُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ ، وَحُصُولَ الْآفَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19614_30502مَنَافِعَ الشُّكْرِ وَمَضَارَّ الْكُفْرَانِ لَا تَعُودُ إِلَّا إِلَى صَاحِبِ الشُّكْرِ وَصَاحِبِ الْكُفْرَانِ ، أَمَّا الْمَعْبُودُ وَالْمَشْكُورُ فَإِنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالشُّكْرِ أَوْ يَسْتَضِرَّ بِالْكُفْرَانِ ، فَلَا جَرَمَ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ لِمَنَافِعَ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَابِدِ لَا لِمَنَافِعَ عَائِدَةٍ إِلَى الْمَعْبُودِ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=6إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ ) وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَوَاجِبُ الْوُجُودِ بِحَسَبِ جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَاعْتِبَارَاتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ ، لَافْتَقَرَ رُجْحَانُ وُجُودِهِ عَلَى عَدَمِهِ إِلَى مُرَجِّحٍ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيًّا ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَنِيًّا ، هَذَا خُلْفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا يُوجِبُ كَوْنَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ فِي ذَاتِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ ، كَانَ أَيْضًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِحَسَبِ جَمِيعِ كَمَالَاتِهِ ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ ذَاتُهُ كَافِيَةً فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ ، لَافْتَقَرَ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْكَمَالِ إِلَى سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ غَنِيًّا ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ غَنِيًّا ، هَذَا خُلْفٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَاتَهُ كَافِيَةٌ فِي حُصُولِ جَمِيعِ كَمَالَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ حَمِيدًا لِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْحَمِيدِ إِلَّا الَّذِي اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيدًا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَزْدَادَ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ ، وَلَا يَنْتَقِصَ بِكُفْرَانِ الْكَافِرِينَ ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ لَطَائِفِ الْأَسْرَارِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=8إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِيمَانَ أَوْ عَلَى الْكُفْرَانِ الَّذِي يُقَابِلُ الشُّكْرَ ، فَالْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ الْبَتَّةَ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فِي كَمَالَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ نُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ .
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ) وَذَكَرَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِمِثْلِ هَلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ
مُوسَى لِقَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ أَمْرَ الْقُرُونِ الْأُولَى ، وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=32016حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ مُخَاطَبَةٍ لِقَوْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
[ ص: 70 ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً ، وَهُمْ :
قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ .
ثم قال تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ) وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " فِيهِ احْتِمَالَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ) جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا .
وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) مَعْطُوفٌ عَلَى
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ) فِيهِ قَوْلَانِ :
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَعْلَمُ كُنْهَ مَقَادِيرِهِمْ إِلَّا اللَّهُ ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ فَأَمَّا ذِكْرُ الْعَدَدِ وَالْعُمُرِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فَغَيْرُ حَاصِلٍ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ أَقْوَامٍ مَا بَلَغَنَا أَخْبَارُهُمْ أَصْلًا كَذَّبُوا رُسُلًا لَمْ نَعْرِفْهُمْ أَصْلًا ، وَلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي طَعَنُوا فِي قَوْلِ مَنْ يَصِلُ الْأَنْسَابَ إِلَى
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَانَ
ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ : كَذَبَ النَّسَّابُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عِلْمَ الْأَنْسَابِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عِلْمَهَا عَنِ الْعِبَادِ ، وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : بَيْنَ
عَدْنَانَ وَبَيْنَ
إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=38وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ) [ الْفُرْقَانِ : 38 ] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=78مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) [ غَافِرٍ : 78 ] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ كَانَ فِي انْتِسَابِهِ لَا يُجَاوِزُ
مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ . وَقَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013014تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ " قَالَ الْقَاضِي : وَعَلَى هَذَا الوجه لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ عَلَى مِقْدَارِ السِّنِينَ مِنْ لَدُنْ
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ الْمَوْصُولَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى ؟
قُلْنَا : الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدِي أَقْرَبُ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ) نَفَى الْعِلْمَ بِهِمْ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ إِذْ لَوْ كَانَتْ ذَوَاتُهُمْ مَعْلُومَةً ، وَكَانَ الْمَجْهُولُ هُوَ مُدَدَ أَعْمَارِهِمْ وَكَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِمْ لَمَا صَحَّ نَفْيُ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ ، وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ لَا جَرَمَ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ أَتَوْا بِأُمُورٍ :
أَوَّلُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ وَالْفَمِ الْخَارِجَتَانِ الْمَعْلُومَتَانِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا شَيْءٌ غَيْرُ هَاتَيْنِ الْجَارِحَتَيْنِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا مَجَازًا وَتَوَسُّعًا . أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
الوجه الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أَيْدِيَهُمْ ) وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9أَفْوَاهِهِمْ ) عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ ، وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30549_30554الْكُفَّارَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ فَعَضُّوهَا مِنَ الْغَيْظِ وَالضَّجَرِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِمْ عَنْ رُؤْيَةِ الرُّسُلِ وَاسْتِمَاعِ كَلَامِهِمْ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=119عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 119 ] وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ عَجِبُوا مِنْهُ وَضَحِكُوا عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ مُشِيرِينَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ كُفُّوا عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَاسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ
الْكَلْبِيِّ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُمْ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَإِلَى مَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ؛ أَيْ هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَلَيْسَ
[ ص: 71 ] عِنْدَنَا غَيْرُهُ إِقْنَاطًا لَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) .
الوجه الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ رَاجِعَيْنِ إِلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَفِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكُفَّارَ أَخَذُوا أَيْدِيَ الرُّسُلِ وَوَضَعُوهَا عَلَى أَفْوَاهِهِمْ لِيُسْكِتُوهُمْ وَيَقْطَعُوا كَلَامَهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا أَيِسُوا مِنْهُمْ سَكَتُوا وَوَضَعُوا أَيْدِيَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ كَلَامًا عِنْدَ قَوْمٍ وَأَنْكَرُوهُ وَخَافَهُمْ فَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ رُبَّمَا وَضَعَ يَدَ نَفْسِهِ عَلَى فَمِ نَفْسِهِ وَغَرَضُهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ الْبَتَّةَ .
الوجه الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ يَرْجِعُ إِلَى الْكُفَّارِ وَفِي الْأَفْوَاهِ إِلَى الرُّسُلِ وَفِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا وَعْظَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَنَصَائِحَهُمْ وَكَلَامَهُمْ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ تَكْذِيبًا لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْكُفَّارَ وَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ ، وَمَنْ بَالَغَ فِي مَنْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ فَقَدْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ . أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْيَدِ وَالْفَمِ تَوَسُّعٌ وَمَجَازٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ :
الوجه الْأَوَّلُ : قَالَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ : الْمُرَادُ بِالْيَدِ مَا نَطَقَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْحُجَجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِسْمَاعَ الْحُجَّةِ إِنْعَامٌ عَظِيمٌ وَالْإِنْعَامُ يُسَمَّى يَدًا . يُقَالُ : لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ إِذَا أَوْلَاهُ مَعْرُوفًا ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْيَدُ وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَفْقَةُ الْبَيْعِ وَالْعَقْدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) [ الْفَتْحِ : 10 ] فَالْبَيِّنَاتُ الَّتِي كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَذْكُرُونَهَا وَيُقَرِّرُونَهَا نِعَمٌ وَأَيَادٍ ، وَأَيْضًا الْعُهُودُ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَ بِهَا مَعَ الْقَوْمِ أَيَادٍ ، وَجَمْعُ الْيَدِ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ هُوَ الْأَيْدِي وَفِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ هُوَ الْأَيَادِي ، فَثَبَتَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31782_28914_34077بَيِّنَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَعُهُودَهُمْ صَحَّ تَسْمِيَتُهَا بِالْأَيْدِي ، وَإِذَا كَانَتِ النَّصَائِحُ وَالْعُهُودُ إِنَّمَا تَظْهَرُ مِنَ الْفَمِ فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ صَارَتْ مَرْدُودَةً إِلَى حَيْثُ جَاءَتْ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=15إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) [ النُّورِ : 15 ] فَلَمَّا كَانَ الْقَبُولُ تَلَقِّيًا بِالْأَفْوَاهِ عَنِ الْأَفْوَاهِ كَانَ الدَّفْعُ رَدًّا فِي الْأَفْوَاهِ ، فَهَذَا تَمَامُ كَلَامِ
أَبِي مُسْلِمٍ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الوجه .
الوجه الثَّانِي : نَقَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ الْجَوَابِ ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْجَوَابِ : رَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ . وَتَقُولُ الْعَرَبُ : كَلَّمْتُ فُلَانًا فِي حَاجَةٍ فَرَدَّ يَدَهُ فِي فِيهِ إِذَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْ ، ثُمَّ إِنَّهُ زَيَّفَ هَذَا الوجه وَقَالَ : إِنَّهُمْ أَجَابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) .
الوجه الثَّالِثُ : الْمُرَادُ مِنَ الْأَيْدِي نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ظَاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهِمْ وَلَمَّا كَذَّبُوا الْأَنْبِيَاءَ فَقَدْ عَرَّضُوا تِلْكَ النِّعَمَ لِلْإِزَالَةِ وَالْإِبْطَالِ ، فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) أَيْ رَدُّوا نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْ أَفْوَاهِهِمْ وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ " فِي " عَلَى مَعْنَى الْبَاءِ ؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ لَا يَمْتَنِعُ إِقَامَةُ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ .
النوع الثَّانِي : مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ قَوْلُهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) وَالْمَعْنَى : إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى هُوَ أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَحَاوَلُوا إِسْكَاتَ الْأَنْبِيَاءِ
[ ص: 72 ] عَنْ تِلْكَ الدَّعْوَى ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِكَوْنِهِمْ كَافِرِينَ بِتِلْكَ الْبَعْثَةِ .
وَالنوع الثَّالِثُ : قَوْلُهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : وَقُرِئَ " تَدْعُونَّا " بِإِدْغَامِ النُّونِ . (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=9مُرِيبٍ ) مُوقِعٍ فِي الرِّيبَةِ أَوْ ذِي رِيبَةٍ مِنْ أَرَابَهُ ، وَالرِّيبَةُ قَلَقُ النَّفْسِ وَأَنْ لَا تَطْمَئِنَّ إِلَى الْأَمْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا ذَكَرُوا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِرِسَالَتِهِمْ كَيْفَ ذَكَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهُمْ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ؟
قُلْنَا : كَأَنَّهُمْ قَالُوا : إِمَّا أَنْ نَكُونَ كَافِرِينَ بِرِسَالَتِكُمْ أَوْ إِنْ لَمْ نَدَعْ هَذَا الْجَزْمَ وَالْيَقِينَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ نَكُونَ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِكُمْ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِنُبُوَّتِكُمْ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .