( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال    ) . 
 [ ص: 114 ] قوله تعالى : ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال     ) . 
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال : ( وقد مكروا مكرهم    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : ( وقد مكروا    ) إلى ماذا يعود ؟ على وجوه : 
الأول : أن يكون الضمير عائدا إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات . 
والثاني : أن يكون المراد به قوم محمد  صلى الله عليه وسلم والدليل عليه قوله : ( وأنذر الناس    ) يا محمد  وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك    ) [ الأنفال : 30 ] وقوله : ( مكرهم    ) أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم . 
الثالث : أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ  حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتا وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور ، وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصيا أربعا وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ، ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ  ، ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض ، فهذا هو المراد من مكرهم . قال القاضي : وهذا بعيد جدا لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية البتة . 
المسألة الثانية : قوله : ( وعند الله مكرهم    ) فيه وجهان : 
الأول : أن يكون المكر مضافا إلى الفاعل كالأول . والمعنى : ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه . 
والثاني : أن يكون المكر مضافا إلى المفعول ، والمعنى : وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون . 
أما قوله تعالى : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال    ) فاعلم أنه قرأ الكسائي  وحده " لتزول " بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه ، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية . 
أما القراءة الأولى : فمعناها أن مكرهم كان معدا لأن تزول منه الجبال ، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه ، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله : ( تكاد السماوات يتفطرن منه    ) [ مريم : 90 ] . 
وأما القراءة الثانية : فالمعنى : أن لفظ " إن " في قوله : ( وإن كان مكرهم    ) بمعنى " ما " واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل . والنحويون يسمونها لام الجحد ، ومثله قوله تعالى : ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب    ) [ آل عمران : 179 ] . ( ما كان الله ليذر المؤمنين    ) [ آل عمران : 179 ] . والجبال ههنا مثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية ؛ لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان    . ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله    ) [ إبراهيم : 47 ] أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم . والمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد  صلى الله عليه وسلم ودلائل شريعته ، وقرأ علي  وعمرو    : " أن كان مكرهم " . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					