أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون ، وقيل : في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=42ما سلككم في سقر ) [المدثر : 42] أي : أدخلكم في جهنم . وذكر
أبو عبيدة وأبو عبيد : سلكته وأسلكته بمعنى واحد .
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى
nindex.php?page=treesubj&link=30454_28785يخلق الباطل في قلوب الكفار ، فقالوا : قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) أي : كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين ، قالت
المعتزلة : لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائدا إليه لا يقال : إنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11يستهزئون ) يدل على الاستهزاء ، فالضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) عائد إليه ، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال ، فثبت صحة قولنا [إن] المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ) هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين ; لأنا نقول : إن كان الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) عائدا إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون به ) عائدا أيضا إلى الاستهزاء ; لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا ، فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء ، وذلك يوجب التناقض ; لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمنا بكفره ، والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به ، وأيضا فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار ، ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه ، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذا الوجه فنقول : التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) عائد إلى الذكر الذي هو القرآن ، فإنه تعالى قال قبل هذه الآية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر ) وقال بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) أي : هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين ، والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ، ويخلق فيها العلم بمعانيه ، وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عنادا وجهلا ، فكان هذا موجبا للحوق الذم الشديد بهم ، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان :
الأول : أن الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون به ) عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) عائدا إليه أيضا ; لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد .
والثاني : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك ) معناه : مثل ما
[ ص: 130 ] عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيها لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه ، ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر ) فوجب أن يكون هذا معطوفا عليه ومشبها به ، ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نسلكه ) عائدا إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم .
والجواب : لا يجوز أن يكون الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نسلكه ) عائدا على الذكر ، ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه ) مذكور بحرف النون ، والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة ، ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلا يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوبا مقهورا . فأما إذا فعل فعلا ولم يظهر له أثر البتة ، صار المنازع والمدافع غالبا قاهرا ، فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحا في هذا المقام ، والأمر ههنا كذلك ; لأنه تعالى سلك إسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر ، لأجل أن يؤمن به ، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع ، وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع ، وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نسلكه ) غير لائق بهذا المقام ، فثبت بهذا أن التأويل الذي ذكروه فاسد .
والوجه الثاني : أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ) ولا يؤمنون به ، أي : ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يؤمنون . أما لم لم يذكر الواو ، فعلمنا أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون به ) كالتفسير والبيان لقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نسلكه في قلوب المجرمين ) وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم .
والوجه الثالث : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر ) بعيد ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11يستهزئون ) قريب ، وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب . أما قوله : لو كان الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نسلكه ) عائدا إلى الاستهزاء لكان في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون به ) عائدا إليه ، وحينئذ يلزم التناقض .
قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات ، ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول ، وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا : الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء ، والضمير الثاني عائد إلى الذكر ، وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن ، أليس أن
الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=190فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) [الأعراف : 189] فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=190جعلا له شركاء ) عائدة إلى
آدم وحواء ، وأما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=190جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) عائدة إلى غيرهما ، فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم ، وإذا ثبت هذا ظهر أنه
nindex.php?page=treesubj&link=34077_34080لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا والله أعلم .
[ ص: 131 ] والوجه الثاني : في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون به ) تفسير للكناية في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نسلكه ) والتقدير : كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به ، والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به .
والوجه الثالث : وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد ، وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق ، والعلم والحق ، وأن أحدا لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب ، فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ، ثم إنه لا يحصل ذلك ، وإنما يحصل الكفر والباطل ، علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه .
فإن قالوا : إنما حصل ذلك الكفر ; لأنه ظن أنه هو الإيمان : فنقول : فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه ، فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق ، فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال ، وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى ، وذلك هو الذي قلناه : أن المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كذلك نسلكه في قلوب المجرمين nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لا يؤمنون ) والمعنى : نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به ، وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها ، وأيضا قدماء المفسرين مثل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها ، والتأويل الذي ذكره
المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين ، فكان مردودا ، وروى القاضي عن
عكرمة أن المراد كذلك نسلك
nindex.php?page=treesubj&link=30458_30454القسوة في قلوب المجرمين ، ثم قال القاضي : إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند ، فلا يصح إضافته إلى الله تعالى ، فيقال للقاضي : إن هذا يجري مجرى المكابرة ، وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه ، وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والإصغاء لقوله ، فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه ، فكيف يقال : إنها حصلت بفعله واختياره ؟
فإن قالوا : إنه يمكنه ترك هذه الأحوال ، والرجوع إلى الانقياد والقبول ، فنقول : هذا مغالطة محضة ; لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب ، والنبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الانقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة ، وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق ، إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب ، فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ، ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال ، وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب ، وذلك عين ما ذكرناه والله أعلم .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13nindex.php?page=treesubj&link=28986_30532وقد خلت سنة الأولين ) ففيه قولان :
الأول : أنه تهديد لكفار
مكة يقول : قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية .
الثاني : وهو قول
الزجاج : وقد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم ، وهذا أليق بظاهر اللفظ .
أما قوله تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : السَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ كَإِدْخَالِ الْخَيْطِ فِي الْمَخِيطِ وَالرُّمْحِ فِي الْمَطْعُونِ ، وَقِيلَ : فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=42مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) [الْمُدَّثِّرِ : 42] أَيْ : أَدْخَلَكُمْ فِي جَهَنَّمَ . وَذَكَرَ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ : سَلَكْتُهُ وَأَسْلَكْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
المسألة الثَّانِيَةُ : احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=30454_28785يَخْلُقُ الْبَاطِلَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ ، فَقَالُوا : قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) أَيْ : كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : لَمْ يَجْرِ لِلضَّلَالِ وَالْكُفْرِ ذِكْرٌ فِيمَا قَبْلَ هَذَا اللَّفْظِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَيْهِ لَا يُقَالُ : إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11يَسْتَهْزِئُونَ ) يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) عَائِدٌ إِلَيْهِ ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ وَضَلَالٌ ، فَثَبَتَ صِحَّةُ قَوْلِنَا [إِنَّ] الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ; لِأَنَّا نَقُولُ : إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) عَائِدًا أَيْضًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ ; لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ تَعَاقَبَا وَتَلَاصَقَا ، فَوَجَبَ عَوْدُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ الِاسْتِهْزَاءِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِكُفْرِهِ ، وَالَّذِي لَا يَكُونُ كَذَلِكَ هُوَ الْمُسْلِمُ الْعَالِمُ بِبُطْلَانِ الْكُفْرِ فَلَا يُصَدِّقُ بِهِ ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسَلُكُ الْكُفْرَ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ وَيَخْلُقُهُ فِيهِ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ ، وَلَكَانَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذُمَّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَيْهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الوجه فَنَقُولُ : التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) وَقَالَ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) أَيْ : هَكَذَا نَسْلُكُ الْقُرْآنَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا السَّلْكِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ وَيَخْلُقُ فِي قُلُوبِهِمْ حِفْظَ هَذَا الْقُرْآنِ ، وَيَخْلُقُ فِيهَا الْعِلْمَ بِمَعَانِيهِ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِنَادًا وَجَهْلًا ، فَكَانَ هَذَا مُوجِبًا لِلُحُوقِ الذَّمِّ الشَّدِيدِ بِهِمْ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) عَائِدًا إِلَيْهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمَا ضَمِيرَانِ مُتَعَاقِبَانِ فَيَجِبُ عُودُهُمَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ ) مَعْنَاهُ : مِثْلَ مَا
[ ص: 130 ] عَمِلْنَا كَذَا وَكَذَا نَعْمَلُ هَذَا السَّلْكَ فَيَكُونُ هَذَا تَشْبِيهًا لِهَذَا السَّلْكِ بِعَمَلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَجْرِ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ ذِكْرٌ فِي سَابِقَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَمُشَبَّهًا بِهِ ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نَسْلُكُهُ ) عَائِدًا إِلَى الذِّكْرِ وَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ كَلَامِ الْقَوْمِ .
وَالْجَوَابُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نَسْلُكُهُ ) عَائِدًا عَلَى الذِّكْرِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ :
الوجه الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ ) مَذْكُورٌ بِحَرْفِ النُّونِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِظْهَارُ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالَةِ ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْظِيمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ كَامِلٌ بِحَيْثُ صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ لَهُ مَغْلُوبًا مَقْهُورًا . فَأَمَّا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ الْبَتَّةَ ، صَارَ الْمُنَازِعُ وَالْمُدَافِعُ غَالِبًا قَاهِرًا ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِنِهَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَالْأَمْرُ هَهُنَا كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَكَ إِسْمَاعَ الْقُرْآنِ وَتَحْفِيظَهُ وَتَعْلِيمَهُ فِي قَلْبِ الْكَافِرِ ، لِأَجْلِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَصَارَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْهَدْرِ الضَّائِعِ ، وَصَارَ الْكَافِرُ وَالشَّيْطَانُ كَالْغَالِبِ الدَّافِعِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ النُّونِ الْمُشْعِرِ بِالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نَسْلُكُهُ ) غَيْرَ لَائِقٍ بِهَذَا الْمَقَامِ ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدٌ .
وَالوجه الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ، أَيْ : وَمَعَ هَذَا السَّعْيِ الْعَظِيمِ فِي تَحْصِيلِ إِيمَانِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ . أَمَّا لِمَ لَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) كَالتَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ أَنَّا نَسْلُكُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ .
وَالوجه الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) بَعِيدٌ ، وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=11يَسْتَهْزِئُونَ ) قَرِيبٌ ، وَعَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ هُوَ الْوَاجِبُ . أما قوله : لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نَسْلُكُهُ ) عَائِدًا إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) عَائِدًا إِلَيْهِ ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ .
قُلْنَا : الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الوجه الْأَوَّلُ : أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ ، وَلَا مَانِعَ مِنَ اعْتِبَارِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي الضَّمِيرِ الْأَوَّلِ ، وَحَصَلَ الْمَانِعُ مِنَ اعْتِبَارِهِ فِي الضَّمِيرِ الثَّانِي فَلَا جَرَمَ قُلْنَا : الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ عَائِدٌ إِلَى الِاسْتِهْزَاءِ ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرِ ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ الْمُتَعَاقِبَةِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ لَيْسَ بِقَلِيلٍ فِي الْقُرْآنِ ، أَلَيْسَ أَنَّ
الْجُبَّائِيَّ وَالْكَعْبِيَّ وَالْقَاضِيَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=190فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الْأَعْرَافِ : 189] فَقَالُوا هَذِهِ الضَّمَائِرُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=190جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ ) عَائِدَةٌ إِلَى
آدَمَ وَحَوَّاءَ ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=190جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) عَائِدَةٌ إِلَى غَيْرِهِمَا ، فَهَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=34077_34080لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَاقُبِ الضَّمَائِرِ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بَلِ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ فَكَذَا هَهُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ ص: 131 ] وَالوجه الثَّانِي : فِي الْجَوَابِ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) تَفْسِيرٌ لِلْكِنَايَةِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12نَسْلُكُهُ ) وَالتَّقْدِيرُ : كَذَلِكَ نَسْلُكُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ ، وَالْمَعْنَى نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ .
وَالوجه الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّا بَيَّنَّا بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاهِرَةِ أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَبْدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالصِّدْقَ ، وَالْعِلْمَ وَالْحَقَّ ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْكَذِبِ ، فَلَمَّا كَانَ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الْإِيمَانَ وَالْحَقَّ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْبَاطِلُ ، عَلِمْنَا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْهُ .
فَإِنْ قَالُوا : إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْكُفْرُ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ : فَنَقُولُ : فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِنَّمَا رَضِيَ بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ سَابِقٍ عَلَيْهِ ، فَيَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ جَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَإِلَّا وَجَبَ انْتِهَاءُ كُلِّ الْجَهَالَاتِ إِلَى جَهْلٍ أَوَّلٍ سَابِقٍ حَصَلَ فِي قَلْبِهِ لَا بِتَحْصِيلِهِ بَلْ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=12كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13لَا يُؤْمِنُونَ ) وَالْمَعْنَى : نَجْعَلُ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا ، وَأَيْضًا قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ مِثْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَلَامِذَتِهِ أَطْبَقُوا عَلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِيهَا ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ
الْمُعْتَزِلَةُ تَأْوِيلٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ، فَكَانَ مَرْدُودًا ، وَرَوَى الْقَاضِي عَنْ
عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ كَذَلِكَ نَسْلُكُ
nindex.php?page=treesubj&link=30458_30454الْقَسْوَةَ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، ثم قال الْقَاضِي : إِنَّ الْقَسْوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْكَافِرِ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَيُعَانِدَ ، فَلَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَيُقَالُ لِلْقَاضِي : إِنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً عَنْ قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ وَنَبْوَةً عَظِيمَةً عَنْهُ حَتَّى أَنَّهُ كُلَّمَا رَآهُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ ، وَرُبَّمَا ارْتَعَدَتْ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ لِقَوْلِهِ ، فَحُصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إِنَّهَا حَصَلَتْ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ ؟
فَإِنْ قَالُوا : إِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ ، فَنَقُولُ : هَذَا مُغَالَطَةٌ مَحْضَةٌ ; لِأَنَّكَ إِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ مَعَ حُصُولِ هَذِهِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الْقَلْبِ ، وَالنَبْوَةِ الْعَظِيمَةِ فِي النَّفْسِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَالْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ وَالرِّضَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّ عِنْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ يُمْكِنُهُ الْعَوْدُ إِلَى الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَهَذَا حَقٌّ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِزَالَةُ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ عَنِ الْقَلْبِ ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ الْإِنْسَانُ لَافْتَقَرَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ إِلَى دَوَاعِي سَابِقَةٍ عَلَيْهَا ، وَلَزِمَ الذَّهَابُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ ، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ وَالصَّوَارِفَ فِي الْقُلُوبِ ، وَذَلِكَ عَيْنُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
أما قوله تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=13nindex.php?page=treesubj&link=28986_30532وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) فَفِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ
مَكَّةَ يَقُولُ : قَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِإِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فِي الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ .
الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ
الزَّجَّاجِ : وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ بِأَنْ يَسْلُكَ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ .