المسألة الثانية : أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع ، واعلم أن منافع النعم منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية . 
فالمنفعة الأولى : قوله : ( لكم فيها دفء    ) وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى فقال : ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها    ) [النحل : 80] والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية ، قال  الأصمعي    : ويكون الدفء السخونة . يقال : أقعد في دفء هذا الحائط ، أي : في كنه . وقرئ : ( دف ) بطرح الهمزة ، وإلقاء حركتها على الفاء . 
والمنفعة الثانية : قوله : ( ومنافع    ) قالوا : المراد نسلها ودرها ، وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم ; لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل ، وقد ينتفع به في البيع بالنقود ، وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل . 
والمنفعة الثالثة : قوله : ( ومنها تأكلون    ) . 
فإن قيل : قوله : ( ومنها تأكلون    ) يفيد الحصر ، وليس الأمر كذلك  ، فإنه قد يؤكل من غيرها ، وأيضا منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس ، فلم أخر منفعته في الذكر ؟ 
قلنا : الجواب عن الأول : أن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر ، فيشبه غير المعتاد . وكالجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أيضا أن غالب أطعمتكم منها ; لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وأيضا تكتسبون بإكراء الإبل   [ ص: 182 ] وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم . 
والجواب عن السؤال الثاني : أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم ، فلهذا قدمه عليه في الذكر . 
واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام . وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور : 
المنفعة الأولى : قوله تعالى : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون    ) الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا ، ويقال : سرح القوم إبلهم سرحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى . قال أهل اللغة : هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث ، وكثر الكلأ ، وخرجت العرب للنجعة ، وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت . 
واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء ، وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها . 
فإن قيل : لم قدمت الإراحة على التسريح ؟  
قلنا : لأن الجمال في الإراحة أكثر ; لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ، ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح ، فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ، ثم تأخذ في التفرق والانتشار ، فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح . 
				
						
						
