المسألة الثالثة : احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28785العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال : إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية ; لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=17أفمن يخلق كمن لا يخلق ) الغرض منه : بيان كونه ممتازا عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقا ، فهذا
[ ص: 12 ] يقتضي أن العبد لو كان خالقا لبعض الأشياء لوجب كونه إلها معبودا ، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد ، قالت
المعتزلة : الجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن المراد : أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السماوات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلا ، فهذا يقتضي أن من كان خالقا لهذه الأشياء فإنه يكون إلها ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلها .
والوجه الثاني : أن معنى الآية : أن من كان خالقا كان أفضل ممن لا يكون خالقا ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقا فإنه يجب أن يكون إلها . والدليل عليه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=195ألهم أرجل يمشون بها ) [ الأعراف : 195 ] ومعناه : أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها ، وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم ، والأفضل لا يليق به عبادة الأخس ، فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلها ، فكذلك - ههنا - المقصود من هذه الآية بيان أن
nindex.php?page=treesubj&link=29705_33677الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أن بمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلها .
والوجه الثالث في الجواب : أن كثيرا من
المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال
الكعبي في " تفسيره " : إنا لا نقول : إنا نخلق أفعالنا : قال : ومن أطلق ذلك فقد أخطأ ؛ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=110وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ) [ المائدة : 110 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] .
واعلم أن أصحاب
أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد ، حتى أن
أبا عبد الله البصير بالغ وقال :
nindex.php?page=treesubj&link=29446_29622إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز ، لأن الخالق عبارة عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظن والحسبان ، وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال .
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي ، والله أعلم .
المسألة الثَّالِثَةُ : احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28785الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ فَقَالَ : إِنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ نَفْسَهُ عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا بِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=17أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ) الْغَرَضُ مِنْهُ : بَيَانُ كَوْنِهِ مُمْتَازًا عَنِ الْأَنْدَادِ بِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِلَهِيَّةَ وَالْمَعْبُودِيَّةَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ خَالِقًا ، فَهَذَا
[ ص: 12 ] يَقْتَضِي أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَوَجَبَ كَوْنُهُ إِلَهًا مَعْبُودًا ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا عَلِمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ ، قَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الوجه الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ : أَفَمَنْ يَخْلُقُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْبِحَارِ وَالنُّجُومِ وَالْجِبَالِ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ أَصْلًا ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إِلَهًا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا .
وَالوجه الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ لَا يَكُونُ خَالِقًا ، فَوَجَبَ امْتِنَاعُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ خَالِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=195أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ) [ الْأَعْرَافِ : 195 ] وَمَعْنَاهُ : أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ يَمْشِي بِهَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْشِيَ بِهَا ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّنَمِ ، وَالْأَفْضَلُ لَا يَلِيقُ بِهِ عِبَادَةُ الْأَخَسِّ ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ رِجْلٌ يَمْشِي بِهَا أَنْ يَكُونَ إِلَهًا ، فَكَذَلِكَ - هَهُنَا - الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29705_33677الْخَالِقَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْخَالِقِ ، فَيَمْتَنِعُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ صِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ يَكُونُ إِلَهًا .
وَالوجه الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ : أَنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ . قَالَ
الْكَعْبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " : إِنَّا لَا نَقُولُ : إِنَّا نَخْلُقُ أَفْعَالَنَا : قَالَ : وَمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=110وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [ الْمَائِدَةِ : 110 ] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [ الْمُؤْمِنُونَ : 14 ] .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ
أَبِي هَاشِمٍ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ ، حَتَّى أَنَّ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصِيرَ بَالَغَ وَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29446_29622إِطْلَاقُ لَفْظِ الْخَالِقِ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةٌ وَعَلَى اللَّهِ مَجَازٌ ، لِأَنَّ الْخَالِقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَاصِلٌ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ قَوِيَّةٌ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .