المسألة الرابعة : احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على قدم القرآن  فقالوا : قوله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون    ) يدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون  ، فلو كان قوله ( كن    ) حادثا لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن ، وذلك يوجب التسلسل ، وهو محال ، فثبت أن كلام الله  قديم . 
واعلم أن هذا الدليل عندي ليس في غاية القوة ، وبيانه من وجوه : 
الوجه الأول : أن كلمة   ( إذا    ) لا تفيد التكرار  ، والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت الدار مرة  طلقت طلقة واحدة ، فلو دخلت ثانيا لم تطلق طلقة ثانية ، فعلمنا أن كلمة "إذا" لا تفيد التكرار ، وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن ، فلم يلزم التسلسل . 
والوجه الثاني : أن هذا الدليل إن صح لزم القول بقدم لفظة " كن " وهذا معلوم البطلان بالضرورة ، لأن لفظة : كن ، مركبة من الكاف والنون ، وعند حضور الكاف لم تكن النون حاضرة ، وعند مجيء النون تتولى الكاف ، وذلك يدل على أن كلمة " كن " يمتنع كونها قديمة ، وإنما الذي يدعي أصحابنا كونه قديما صفة مغايرة للفظة كن ، فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدل عليه الآية ، فسقط التمسك به . 
والوجه الثالث : أن الرجل إذا قال : إن فلانا لا يقدم على قول ولا على فعل إلا ويستعين فيه بالله تعالى ، فإن عاقلا لا يقول : إن استعانته بالله فعل من أفعاله فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير النهاية لأن هذا الكلام بحسب العرف باطل ، فكذلك ما قالوه . 
والوجه الرابع : أن هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه : 
الوجه الأول : أن قوله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه    ) يقتضي كون القول واقعا بالإرادة ، وما كان كذلك فهو محدث . 
 [ ص: 28 ] والوجه الثاني : أنه علق القول بكلمة إذا ، ولا شك أن لفظة " إذا " تدخل للاستقبال . 
والوجه الثالث : أن قوله : ( أن نقول له    ) لا خلاف أن ذلك ينبئ عن الاستقبال . 
والوجه الرابع : أن قوله : ( كن فيكون    ) يدل على أن حدوث الكون حاصل عقيب قوله : ( كن    ) فتكون كلمة ( كن    ) متقدمة على حدوث الكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثا . 
والوجه الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : ( وكان أمر الله مفعولا    ) [ النساء : 47 ] ، ( وكان أمر الله قدرا مقدورا    ) [ الأحزاب : 38 ] . ( الله نزل أحسن الحديث    ) [ الزمر : 23 ] . ( فليأتوا بحديث مثله    ) [ الطور : 34 ] ، ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة    ) [ الأحقاف : 12 ] . 
فإن قيل : فهب أن هذه الآية لا تدل على قدم الكلام ، ولكنكم ذكرتم أنها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه ؟ . 
قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثا مخلوقا . والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					