أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=49ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قد ذكرنا أن السجود على نوعين : سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى ، وسجود هو عبارة عن
nindex.php?page=treesubj&link=19611الانقياد لله تعالى والخضوع ، ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما ، وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح .
إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من قال : المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد ، والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ، ومنهم من قال : المراد بالسجود ههنا هو المعنى الأول ، لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى ; لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات ، ومنهم من قال : السجود لفظ مشترك بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز ، فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معا ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى ، وهذا القول ضعيف ; لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معا غير جائز .
المسألة الثانية : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=49من دابة ) قال
الأخفش : يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول : ما أتاني من رجل مثله ، وما أتاني من الرجال مثله ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض .
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما الوجه في تخصيص الدواب والملائكة بالذكر ؟ فنقول فيه وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى ; لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة ، فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلا على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى .
والوجه الثاني : قال حكماء الإسلام : الدابة اشتقاقها من الدبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة
[ ص: 37 ] الجسمانية ، فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب ، فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب ، بل هي أرواح محضة مجردة ، ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) [ الأنعام : 38 ] والله أعلم .
أما قوله تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=49وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ ) فَفِيهِ مَسَائِلُ :
المسألة الْأُولَى : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّجُودَ عَلَى نَوْعَيْنِ : سُجُودٌ هُوَ عِبَادَةٌ كَسُجُودِ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَسُجُودٌ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=19611الِانْقِيَادِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ ، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا السُّجُودِ إِلَى أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُمْكِنَةُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ قَابِلَةٌ لَهُمَا ، وَأَنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السُّجُودُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالِانْقِيَادُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّائِقَ بِالدَّابَّةِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا السُّجُودَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالسُّجُودِ هَهُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ ، لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْمَلَائِكَةِ هُوَ السُّجُودُ بِهَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ السُّجُودَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي حَاصِلٌ فِي كُلِّ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : السُّجُودُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْهِ جَائِزٌ ، فَحَمْلُ لَفْظِ السُّجُودِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، أَمَّا فِي حَقِّ الدَّابَّةِ فَبِمَعْنَى التَّوَاضُعِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ فَبِمَعْنَى سُجُودِ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ لِإِفَادَةِ جَمِيعِ مَفْهُومَاتِهِ مَعًا غَيْرُ جَائِزٍ .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=49مِنْ دَابَّةٍ ) قَالَ
الْأَخْفَشُ : يُرِيدُ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَخْبَرَ بِالْوَاحِدِ كَمَا تَقُولُ : مَا أَتَانِي مِنْ رَجُلٍ مِثْلُهُ ، وَمَا أَتَانِي مِنَ الرِّجَالِ مِثْلُهُ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ كُلَّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ .
المسألة الثَّالِثَةُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا الوجه فِي تَخْصِيصِ الدَّوَابِّ وَالْمَلَائِكَةِ بِالذِّكْرِ ؟ فَنَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ :
الوجه الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي آيَةِ الظِّلَالِ أَنَّ الْجَمَادَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ أَخَسَّهَا الدَّوَابُّ وَأَشْرَفَهَا الْمَلَائِكَةُ ، فَلَمَّا بَيَّنَ فِي أَخَسِّهَا وَفِي أَشْرَفِهَا كَوْنَهَا مُنْقَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا بِأَسْرِهَا مُنْقَادَةٌ خَاضِعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَالوجه الثَّانِي : قَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ : الدَّابَّةُ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الدَّبِيبِ ، وَالدَّبِيبُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ
[ ص: 37 ] الْجُسْمَانِيَّةِ ، فَالدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَنَاحَ لِلطَّيَرَانِ مُغَايِرٌ لِلدَّبِيبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ) [ الْأَنْعَامِ : 38 ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ .