ثم إنه تعالى ذكر أن الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه ، فما لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله تعالى فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=58وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور ، إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ، ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة فكذلك الحزن يوجبه . فوجب أن يكون لفظة التبشير حقيقة في القسمين ، ويتأكد هذا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=21فبشرهم بعذاب أليم ) [ آل عمران : 21 ] ومنهم من قال : المراد بالتبشير ههنا الإخبار ، والقول الأول أدخل في التحقيق .
أما قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=58ظل وجهه مسودا ) فالمعنى أنه يصير متغيرا تغير مغتم ، ويقال لمن لقي مكروها : قد اسود وجهه غما وحزنا ، وأقول : إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم ، وذلك لأن الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره وانبسط روح قلبه من داخل القلب ، ووصل إلى الأطراف ، ولا سيما إلى الوجه لما بينهما من التعلق الشديد ، وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار ، وأما إذا قوي غم الإنسان احتقن الروح في باطن القلب ، ولم يبق منه أثر قوي في ظاهر الوجه ، فلا جرم يربد الوجه ويصفر ويسود ، ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة ، فثبت أن من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ، ومن لوازم الغم كمودة الوجه وغبرته وسواده ، فلهذا السبب جعل بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح ، وغبرته وكمودته وسواده كناية عن الغم والحزن والكراهية ، ولهذا المعنى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=58ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) أي : ممتلئ غما وحزنا .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59يتوارى من القوم من سوء ) أي : يختفي ويتغيب من سوء ما بشر به ، قال المفسرون :
nindex.php?page=treesubj&link=30578كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا ابتهج به ، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما يدبر فيها أنه ماذا يصنع بها ؟ وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ) والمعنى : أيحبسه ؟ والإمساك ههنا بمعنى الحبس كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37أمسك عليك زوجك ) [ الأحزاب : 37 ] وإنما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أيمسكه ) ذكره بضمير الذكران ; لأن هذا الضمير عائد على " ما " في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59بشر به ) والهون الهوان قال
النضر بن شميل : يقال : إنه أهون عليه هونا وهوانا ، وأهنته هونا وهوانا ، وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93عذاب الهون ) وفي أن هذا الهون صفة من ؟ قولان :
الأول أنه صفة المولودة ، ومعناه أنه يمسكها عن هون منه لها .
والثاني قال
عطاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إنه صفة للأب ، ومعناه أنه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه وعلى رغم أنفه .
ثم قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أم يدسه في التراب ) والدس إخفاء الشيء في الشيء . يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ويجعلونها فيها حتى تموت .
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013043وروي عن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله ، إني واريت ثماني بنات في الجاهلية فقال عليه السلام " أعتق عن كل واحدة منهن رقبة " فقال : يا نبي الله ، إني ذو إبل ، فقال : " اهد عن كل واحدة هديا "
وروي أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ، فأمرت امرأتي أن تزينها ، فأخرجتها إلي فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه ، فقالت : يا [ ص: 46 ] أبت قتلتني ، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء ، فقال عليه السلام : " ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار " واعلم أنهم كانوا مختلفين في
nindex.php?page=treesubj&link=30578قتل البنات ، فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنهم من يذبحها ، وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية ، وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة ، ثم إنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59ألا ساء ما يحكمون ) وذلك لأنهم بلغوا من الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات :
فأولها : أن يسود وجهه .
وثانيها : أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن البنت .
وثالثها : أن الولد محبوب بحسب الطبيعة ، ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها ، وذلك يدل على أن النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزداد عليه . إذا ثبت هذا فالشيء الذي بلغ الاستنكاف منه إلى هذا الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ؟ ونظير هذه الآية قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=21ألكم الذكر وله الأنثى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=22تلك إذا قسمة ضيزى ) [ النجم :21 - 22] .
المسألة الثانية : قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان الخبر ; لأنهم يضيفون إلى الله تعالى من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه ، فحكمهم في ذلك مشابه لحكم هؤلاء المشركين ، ثم قال : بل أعظم ; لأن إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد ، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى . فيقال للقاضي : إنه لما ثبت بالدليل
nindex.php?page=treesubj&link=29705استحالة الصاحبة والولد على الله تعالى أردفه الله تعالى بذكر هذا الوجه الإقناعي ، وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح من الله تعالى . ألا ترى رجلا زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ، ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع ، فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى ، وقبيح من كل خلق ، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف ، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية . أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة أن خالقها هو الله تعالى ، فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب ؟ والله أعلم .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ) والمثل السوء عبارة عن الصفة السوء ، وهي احتياجهم إلى الولد ، وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60ولله المثل الأعلى ) أي : الصفة العالية المقدسة ، وهي كونه تعالى منزها عن الولد .
فإن قيل : كيف جاء (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60ولله المثل الأعلى ) مع قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=74فلا تضربوا لله الأمثال ) [ النحل : 74 ] ؟
قلنا : المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل ، والله أعلم
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَرْضَى بِالْوَلَدِ الْبِنْتِ لِنَفْسِهِ ، فَمَا لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ كَيْفَ يَنْسُبُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=58وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
المسألة الْأُولَى : التَّبْشِيرُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُفِيدُ السُّرُورَ ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الوجه ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرُورَ كَمَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْبَشَرَةِ فَكَذَلِكَ الْحُزْنُ يُوجِبُهُ . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ التَّبْشِيرِ حَقِيقَةً فِي الْقِسْمَيْنِ ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=21فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 21 ] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالتَّبْشِيرِ هَهُنَا الْإِخْبَارُ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ .
أما قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=58ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ) فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرَ مُغْتَمٍّ ، وَيُقَالُ لِمَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا : قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحَزَنًا ، وَأَقُولُ : إِنَّمَا جَعَلَ اسْوِدَادَ الوجه كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَوِيَ فَرَحُهُ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَانْبَسَطَ رُوحُ قَلْبِهِ مِنْ دَاخِلِ الْقَلْبِ ، وَوَصَلَ إِلَى الْأَطْرَافِ ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الوجه لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ الشَّدِيدِ ، وَإِذَا وَصَلَ الرُّوحُ إِلَى ظَاهِرِ الوجه أَشْرَقَ الوجه وَتَلَأْلَأَ وَاسْتَنَارَ ، وَأَمَّا إِذَا قَوِيَ غَمُّ الْإِنْسَانِ احْتَقَنَ الرُّوحُ فِي بَاطِنِ الْقَلْبِ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي ظَاهِرِ الوجه ، فَلَا جَرَمَ يُرَبَّدُ الوجه وَيَصْفَرُّ وَيَسْوَدُّ ، وَيَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْأَرْضِيَّةِ وَالْكَثَافَةِ ، فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْفَرَحِ اسْتِنَارَةَ الوجه وَإِشْرَاقَهُ ، وَمِنْ لَوَازِمَ الْغَمِّ كُمُودَةَ الوجه وَغُبْرَتَهُ وَسَوَادَهُ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ جُعِلَ بَيَاضُ الوجه وَإِشْرَاقُهُ كِنَايَةً عَنِ الْفَرَحِ ، وَغُبْرَتُهُ وَكُمُودَتُهُ وَسَوَادُهُ كِنَايَةً عَنِ الْغَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْكَرَاهِيَةِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=58ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) أَيْ : مُمْتَلِئٌ غَمًّا وَحَزَنًا .
ثم قال تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ) أَيْ : يَخْتَفِي وَيَتَغَيَّبُ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ :
nindex.php?page=treesubj&link=30578كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا ظَهَرَ آثَارُ الطَّلْقِ بِامْرَأَتِهِ تَوَارَى وَاخْتَفَى عَنِ الْقَوْمِ إِلَى أَنْ يَعْلَمَ مَا يُولَدُ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ابْتَهَجَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى حَزِنَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ أَيَّامًا يُدَبِّرُ فِيهَا أَنَّهُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) وَالْمَعْنَى : أَيَحْبِسُهُ ؟ وَالْإِمْسَاكُ هَهُنَا بِمَعْنَى الْحَبْسِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) [ الْأَحْزَابِ : 37 ] وَإِنَّمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أَيُمْسِكُهُ ) ذَكَرَهُ بِضَمِيرِ الذُّكْرَانِ ; لِأَنَّ هَذَا الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى " مَا " فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59بُشِّرَ بِهِ ) وَالْهُونُ الْهَوَانُ قَالَ
النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : يُقَالُ : إِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ هُونًا وَهَوَانًا ، وَأَهَنْتُهُ هُونًا وَهَوَانًا ، وَذَكَرْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=93عَذَابَ الْهُونِ ) وَفِي أَنَّ هَذَا الْهُونَ صِفَةُ مَنْ ؟ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ أَنَّهُ صِفَةُ الْمَوْلُودَةِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا عَنْ هُونٍ مِنْهُ لَهَا .
وَالثَّانِي قَالَ
عَطَاءٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّهُ صِفَةٌ لِلْأَبِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسِكُهَا مَعَ الرِّضَا بِهَوَانِ نَفْسِهِ وَعَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ .
ثم قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) وَالدَّسُّ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ . يُرْوَى أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَحْفِرُونَ حَفِيرَةً وَيَجْعَلُونَهَا فِيهَا حَتَّى تَمُوتَ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013043وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي وَارَيْتُ ثَمَانِيَ بَنَاتٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً " فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، إِنِّي ذُو إِبِلٍ ، فَقَالَ : " اهْدِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ هَدْيًا "
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَجِدُ حَلَاوَةَ الْإِسْلَامِ مُنْذُ أَسْلَمْتُ ، فَقَدْ كَانَتْ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ ابْنَةٌ ، فَأَمَرْتُ امْرَأَتِي أَنْ تُزَيِّنَهَا ، فَأَخْرَجَتْهَا إِلَيَّ فَانْتَهَيْتُ بِهَا إِلَى وَادٍ بَعِيدِ الْقَعْرِ فَأَلْقَيْتُهَا فِيهِ ، فَقَالَتْ : يَا [ ص: 46 ] أَبَتِ قَتَلْتَنِي ، فَكُلَّمَا ذَكَرْتُ قَوْلَهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شَيْءٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : " مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَمَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ يَهْدِمُهُ الِاسْتِغْفَارُ " وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30578قَتْلِ الْبَنَاتِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَدْفِنُهَا فِيهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهَا مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِقُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْبَحُهَا ، وَهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَارَةً لِلْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ ، وَتَارَةً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=59أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا مِنَ الِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْبِنْتِ إِلَى أَعْظَمِ الْغَايَاتِ :
فَأَوَّلُهَا : أَنْ يَسْوَدَّ وَجْهُهُ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ يَخْتَفِي عَنِ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنِ الْبِنْتِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْوَلَدَ مَحْبُوبٌ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ ، ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْهَا يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِهَا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْرَةَ عَنِ الْبِنْتِ وَالِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَزْدَادُ عَلَيْهِ . إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّيْءُ الَّذِي بَلَغَ الِاسْتِنْكَافُ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَنْسُبَهُ لِإِلَهِ الْعَالِمِ الْمُقَدِّسِ الْعَالِي عَنْ مُشَابَهَةِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=21أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=22تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) [ النَّجْمِ :21 - 22] .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مَا إِذَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِهِمْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّبَاعُدِ عَنْهُ ، فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَابِهٌ لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، ثم قال : بَلْ أَعْظَمُ ; لِأَنَّ إِضَافَةَ الْبَنَاتِ إِلَيْهِ إِضَافَةُ قُبْحٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ إِضَافَةِ كُلِّ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى . فَيُقَالُ لِلْقَاضِي : إِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ
nindex.php?page=treesubj&link=29705اسْتِحَالَةُ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذَا الوجه الْإِقْنَاعِيِّ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَا قَبُحَ مِنَّا فِي الْعُرْفِ قَبُحَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى . أَلَا تَرَى رَجُلًا زَيَّنَ إِمَاءَهُ وَعَبِيدَهُ وَبَالَغَ فِي تَحْسِينِ صُوَرِهِنَّ ، ثُمَّ بَالَغَ فِي تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَفِيهِنَّ ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ وَأَزَالَ الْحَائِلَ وَالْمَانِعَ ، فَإِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ حَسَنٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَبِيحٌ مِنْ كُلِّ خَلْقٍ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّعْوِيلَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَتْ تَقْوِيَتُهَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْإِقْنَاعِيَّةِ . أَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالْآخَرِ لَوْلَا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
ثم قال تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ) وَالْمَثَلُ السَّوْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ السَّوْءِ ، وَهِيَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْوَلَدِ ، وَكَرَاهَتُهُمُ الْإِنَاثَ خَوْفَ الْفَقْرِ وَالْعَارِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ) أَيِ : الصِّفَةُ الْعَالِيَةُ الْمُقَدَّسَةُ ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَاءَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=60وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ) مَعَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=74فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ) [ النَّحْلِ : 74 ] ؟
قُلْنَا : الْمَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُهُ اللَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَالَّذِي يَذْكُرُهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْبَاطِلُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ