(
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون )
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيات والنبوات والمعاد وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الإلهيات ، فلهذا السبب
[ ص: 52 ] كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات ، وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=29426دلائل الإلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية ، وثنى بالإنسان ، وثلث بالحيوان ، وربع بالنبات ، وخمس بذكر أحوال البحر والأرض ، فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولا بذكر الفلكيات فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ) والمعنى : أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سببا لحياة الأرض ، والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر ، وينفع بعد أن كان لا ينفع ، وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مرارا كثيرة .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) سماع إنصاف وتدبر ؛ لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع .
والنوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآيات :
nindex.php?page=treesubj&link=19790_28659الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ) قد ذكرنا معنى العبرة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13لعبرة لأولي الأبصار ) [ آل عمران : 13 ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
ابن كثير ،
وأبو عمرو ،
وحفص عن
عاصم ،
وحمزة والكسائي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نسقيكم ) بضم النون ، والباقون بالفتح ، أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول : سقيته حتى روي أسقيه قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=21وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) [ الإنسان : 21 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79والذي هو يطعمني ويسقين ) [ الشعراء : 79 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15وسقوا ماء حميما ) [ محمد : 15 ] ومن ضم النون فهو من قولك : أسقاه إذا جعل له شرابا كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=27وأسقيناكم ماء فراتا ) [ المرسلات : 27 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22فأسقيناكموه ) [ الحجر : 22 ] والمعنى ههنا : أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا ، واختار
أبو عبيد الضم قال : لأنه شرب دائم ، وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت .
المسألة الثانية : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ) الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال : مما في بطونها ، وذكر النحويون فيه وجوها .
الأول : أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع ، كالرهط والقوم والبقر والنعم ، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد ، وهو التذكير ، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع ، وهو التأنيث ، فلهذا السبب قال ههنا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66في بطونه ) ، وقال في سورة المؤمنين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=21في بطونها ) .
الثاني : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66في بطونه ) أي : في بطون ما ذكرنا ، وهذا جواب
الكسائي . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : هذا شائع في القرآن . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) [ الأنعام : 78 ] يعني : هذا الشيء الطالع ربي ، وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=11إنها تذكرة nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=12فمن شاء ذكره ) [ عبس : 11 ] أي : ذكر هذا الشيء .
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي ، أما الذي يكون تأنيثه حقيقيا ، فلا يجوز ، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال : جاريتك ذهب ، ولا غلامك ذهبت ، على تقدير أن نحمله على النسمة .
الثالث : أن فيه إضمارا ، والتقدير : نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن .
المسألة الثالثة : الفرث : سرجين الكرش . روى
الكلبي عن
أبي صالح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما وأوسطه لبنا ، فيجري الدم في العروق واللبن في
[ ص: 53 ] الضرع ، ويبقى الفرث كما هو ، فذاك هو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66من بين فرث ودم لبنا خالصا ) لا يشوبه الدم ولا الفرث .
ولقائل أن يقول : الدم واللبن لا يتولدان البتة في الكرش ، والدليل عليه الحس ، فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحا متواليا ، وما رأى أحد في كرشها لا دما ولا لبنا ، ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال ، والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنسانا ، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها ، فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ، ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ويصير دما ، وذلك هو الهضم الثاني ، ويكون ذلك الدم مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة ، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة ، وهي العروق النابتة من الكبد ، وهناك يحصل الهضم الثالث ، وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع ، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن ، فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن .
فإن قيل : فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن ؟ .
قلنا : الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته ، فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حارا يابسا ، ومزاج الأنثى يجب أن يكون باردا رطبا ، والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى ، فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين :
الأول : أن الولد إنما يتولد من الرطوبات ، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد .
والثاني : أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلا للتمدد حتى يتسع لذلك الولد ، فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلا للتمدد ، فيتسع للولد ، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة ، ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم ، فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير .
إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي لأجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق .
إذا عرفت هذا التصوير فنقول : المفسرون قالوا : المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66من بين فرث ودم ) هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد ، فالفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، واللبن يكون في الوسط ، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة ، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم ، وذلك باطل قطعا . وأما نحن فنقول : المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم ، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش ، وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولا ، ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانيا ، فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة ، وخلق فيها الصفات التي
[ ص: 54 ] باعتبارها صارت لبنا موافقا لبدن الطفل ، فهذا ما حصلناه في هذا المقام ، والله أعلم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )
اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَقْرِيرُ أُصُولٍ أَرْبَعَةٍ : الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَقْرِيرُ الْإِلَهِيَّاتِ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ
[ ص: 52 ] كُلَّمَا امْتَدَّ الْكَلَامُ فِي فَصْلٍ مِنَ الْفُصُولِ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ
nindex.php?page=treesubj&link=29426دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ ابْتَدَأَ بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ ، وَثَنَّى بِالْإِنْسَانِ ، وَثَلَّثَ بِالْحَيَوَانِ ، وَرَبَّعَ بِالنَّبَاتِ ، وَخَمَّسَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ ، فَهَهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَرْضِ ، وَالْمُرَادُ بِحَيَاةِ الْأَرْضِ نَبَاتُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالنَّوْرِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُثْمِرُ ، وَيَنْفَعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِقَلْبِهِ فَكَأَنَّهُ أَصَمُّ لَمْ يَسْمَعْ .
وَالنوع الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ :
nindex.php?page=treesubj&link=19790_28659الِاسْتِدْلَالُ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 13 ] وَفِيهِ مَسَائِلُ :
المسألة الْأُولَى : قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ ،
وَأَبُو عَمْرٍو ،
وَحَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ ،
وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نُسْقِيكُمْ ) بِضَمِّ النُّونِ ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ ، أَمَّا مَنْ فَتَحَ النُّونَ فَحُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ تَقُولُ : سَقَيْتُهُ حَتَّى رُوِيَ أَسْقِيهِ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=21وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ) [ الْإِنْسَانِ : 21 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=79وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) [ الشُّعَرَاءِ : 79 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) [ مُحَمَّدٍ : 15 ] وَمَنْ ضَمَّ النُّونَ فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ : أَسْقَاهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ شَرَابًا كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=77&ayano=27وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ) [ الْمُرْسَلَاتِ : 27 ] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ) [ الْحِجْرِ : 22 ] وَالْمَعْنَى هَهُنَا : أَنَّا جَعَلْنَاهُ فِي كَثْرَتِهِ وَإِدَامَتِهِ كَالسُّقْيَا ، وَاخْتَارَ
أَبُو عُبَيْدٍ الضَّمَّ قَالَ : لِأَنَّهُ شُرْبٌ دَائِمٌ ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَسْقَيْتُ .
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَنْعَامِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : مِمَّا فِي بُطُونِهَا ، وَذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِيهِ وُجُوهًا .
الْأَوَّلُ : أَنَّ لَفْظَ الْأَنْعَامِ مُفْرِدٌ وُضِعَ لِإِفَادَةِ جَمْعٍ ، كَالرَّهْطِ وَالْقَوْمِ وَالْبَقَرِ وَالنَّعَمِ ، فَهُوَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الْوَاحِدِ ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ ، وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى جَمْعٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُهُ ضَمِيرَ الْجَمْعِ ، وَهُوَ التَّأْنِيثُ ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ هَهُنَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66فِي بُطُونِهِ ) ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=21فِي بُطُونِهَا ) .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66فِي بُطُونِهِ ) أَيْ : فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا جَوَابُ
الْكِسَائِيِّ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15153الْمُبَرِّدُ : هَذَا شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ) [ الْأَنْعَامِ : 78 ] يَعْنِي : هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ رَبِّي ، وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=11إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=12فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) [ عَبَسَ : 11 ] أَيْ : ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ تَأْنِيثُهُ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا ، فَلَا يَجُوزُ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي مُسْتَقِيمِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ : جَارِيَتُكَ ذَهَبَ ، وَلَا غُلَامُكَ ذَهَبَتْ ، عَلَى تَقْدِيرٍ أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى النَّسَمَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا ، وَالتَّقْدِيرُ : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ إِذْ لَيْسَ كُلُّهَا ذَاتَ لَبَنٍ .
المسألة الثَّالِثَةُ : الْفَرْثُ : سِرْجِينُ الْكَرِشِ . رَوَى
الْكَلْبِيُّ عَنْ
أَبِي صَالِحٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : إِذَا اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكَرِشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَعْلَاهُ دَمًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا ، فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّبَنُ فِي
[ ص: 53 ] الضَّرْعِ ، وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ ، فَذَاكَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا ) لَا يَشُوبُهُ الدَّمُ وَلَا الْفَرْثُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الدَّمُ وَاللَّبَنُ لَا يَتَوَلَّدَانِ الْبَتَّةَ فِي الْكَرِشِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحِسُّ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ تُذْبَحُ ذَبْحًا مُتَوَالِيًا ، وَمَا رَأَى أَحَدٌ فِي كَرِشِهَا لَا دَمًا وَلَا لَبَنًا ، وَلَوْ كَانَ تَوَلُّدُ الدَّمِ وَاللَّبَنِ فِي الْكِرْشِ لَوَجَبَ أَنْ يُشَاهَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَالشَّيْءُ الَّذِي دَلَّتِ الْمُشَاهَدَةُ عَلَى فَسَادِهِ لَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا تَنَاوَلَ الْغِذَاءَ وَصَلَ ذَلِكَ الْعَلَفُ إِلَى مَعِدَتِهِ إِنْ كَانَ إِنْسَانًا ، وَإِلَى كَرِشِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا ، فَإِذَا طُبِخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ صَافِيًا انْجَذَبَ إِلَى الْكَبِدِ ، وَمَا كَانَ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ ، ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ فِي الْكَبِدِ يَنْطَبِخُ فِيهَا وَيَصِيرُ دَمًا ، وَذَلِكَ هُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الدَّمُ مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ ، أَمَّا الصَّفْرَاءُ فَتَذْهَبُ إِلَى الْمَرَارَةِ ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ ، وَمِنْهَا إِلَى الْمَثَانَةِ ، وَأَمَّا ذَلِكَ الدَّمُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْأَوْرِدَةِ ، وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ ، وَهُنَاكَ يَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ ، وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ فَيَنْصَبُّ الدَّمُ فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ ، وَالضَّرْعُ لَحْمٌ غُدَدِيٌّ رَخْوٌ أَبْيَضُ فَيُقَلِّبُ اللَّهُ تَعَالَى الدَّمَ عِنْدَ انْصِبَابِهِ إِلَى ذَلِكَ اللَّحْمِ الْغُدَدِيِّ الرَّخْوِ الْأَبْيَضِ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ اللَّبَنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْمَعَانِي حَاصِلَةٌ فِي الْحَيَوَانِ الذَّكَرِ فَلِمَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ اللَّبَنُ ؟ .
قُلْنَا : الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ اقْتَضَتْ تَدْبِيرَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الوجه اللَّائِقِ بِهِ الْمُوَافِقِ لِمَصْلَحَتِهِ ، فَمِزَاجُ الذَّكَرِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَارًّا يَابِسًا ، وَمِزَاجُ الْأُنْثَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَارِدًا رَطْبًا ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ فِي دَاخِلِ بَدَنِ الْأُنْثَى ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأُنْثَى مُخْتَصَّةً بِمَزِيدِ الرُّطُوبَاتِ لِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الرُّطُوبَاتِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي بَدَنِ الْأُنْثَى رُطُوبَاتٌ كَثِيرَةٌ لِتَصِيرَ مَادَّةً لِتَوَلُّدِ الْوَلَدِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا كَبِرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَنُ الْأُمِّ قَابِلًا لِلتَّمَدُّدِ حَتَّى يَتَّسِعَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ ، فَإِذَا كَانَتِ الرُّطُوبَاتُ غَالِبَةً عَلَى بَدَنِ الْأُمِّ كَانَ بَدَنُهَا قَابِلًا لِلتَّمَدُّدِ ، فَيَتَّسِعُ لِلْوَلَدِ ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ بَدَنَ الْأُنْثَى مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ بِمَزِيدِ الرُّطُوبَاتِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ ، ثُمَّ إِنَّ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَصِيرُ مَادَّةً لِازْدِيَادِ بَدَنِ الْجَنِينِ حِينَ كَانَ فِي رَحِمِ الْأُمِّ ، فَعِنْدَ انْفِصَالِ الْجَنِينِ تَنْصَبُّ إِلَى الثَّدْيِ وَالضَّرْعِ لِيَصِيرَ مَادَّةً لِغِذَاءِ ذَلِكَ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَتَوَلَّدُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْأُنْثَى غَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ الذَّكَرِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا التَّصْوِيرَ فَنَقُولُ : الْمُفَسِّرُونَ قَالُوا : الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ) هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ ، وَالدَّمُ يَكُونُ فِي أَعْلَاهُ ، وَاللَّبَنُ يَكُونُ فِي الْوَسَطِ ، وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ ، وَلِأَنَّ الدَّمَ لَوْ كَانَ يَتَوَلَّدُ فِي أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَالْكَرِشِ كَانَ يَجِبُ إِذَا قَاءَ أَنْ يَقِيءَ الدَّمَ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا . وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ : الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ ، وَهَذَا اللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الْفَرْثِ أَوَّلًا ، ثُمَّ كَانَتْ حَاصِلَةً فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا ، فَصَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْكَثِيفَةِ الْغَلِيظَةِ ، وَخَلَقَ فِيهَا الصِّفَاتِ الَّتِي
[ ص: 54 ] بِاعْتِبَارِهَا صَارَتْ لَبَنًا مُوَافِقًا لِبَدَنِ الطِّفْلِ ، فَهَذَا مَا حَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .