بقي في لفظ الآية مباحث :
البحث الأول : قرأ
ابن كثير : " ولا تك في ضيق " بكسر الضاد ، وفي النمل مثله ، والباقون : بفتح الضاد في الحرفين . أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور : قال
أبو عبيدة : الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب فإنه الضيق . وقال
أبو عمرو : الضيق بالكسر الشدة ، والضيق بفتح الضاد الغم . وقال
القتيبي : ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين . وبهذا الطريق قلنا : إنه تصح قراءة
ابن كثير .
البحث الثاني : قرئ " ولا تكن في ضيق " .
البحث الثالث : هذا من كلام المقلوب ؛ لأن الضيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلا في الصفة ، فكان المعنى : فلا يكون الضيق فيك ، إلا أن الفائدة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=127ولا تك في ضيق ) هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب ، وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى ، والله أعلم .
المرتبة الرابعة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وهذا يجري مجرى التهديد ؛ لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) ، وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إن الله مع الذين اتقوا ) عن استيفاء الزيادة (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128والذين هم محسنون ) في ترك أصل الانتقام ، فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين .
ومن وقف على هذا الترتيب عرف أن
nindex.php?page=treesubj&link=20199_20077_20069الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ، ولما قال الله لرسوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) ذكر هذه المراتب الأربعة ؛ تنبيها على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه ، وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له .
المسألة الثالثة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128nindex.php?page=treesubj&link=28987_28729إن الله مع الذين اتقوا ) معيته بالرحمة والفضل والرتبة ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128الذين اتقوا ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128والذين هم محسنون ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك
[ ص: 115 ] يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين ؛ أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ، وعبر عنه بعض المشايخ ، فقال : كمال الطريق صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق . وقال الحكماء : كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17234هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة : أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي ، ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل .
المسألة الرابعة : قال بعضهم : إن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) منسوخ بآية السيف ، وهذا في غاية البعد ؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في
nindex.php?page=treesubj&link=32022كيفية الدعوة إلى الله تعالى ، وترك التعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف ، وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ، ولا أرى فيه فائدة ، والله أعلم بالصواب .
قال المصنف رحمه الله : تم تفسير هذه السورة ليلة الثلاثاء بعد العشاء الآخرة بزمان معتدل ، وقال رحمه الله : الحق عزيز ، والطريق بعيد ، والمركب ضعيف ، والقرب بعد ، والوصل هجر ، والحقائق مصونة ، والمعاني في غيب الغيب محصونة ، والأسرار فيما وراء العز مخزونة ، وبيد الخلق القيل والقال ، والكمال ليس إلا لله ذي الإكرام والجلال ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على سيدنا
محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم .
بَقِيَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَبَاحِثُ :
البحث الْأَوَّلُ : قَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ : " وَلَا تَكُ فِي ضِيقٍ " بِكَسْرِ الضَّادِ ، وَفِي النَّمْلِ مِثْلُهُ ، وَالْبَاقُونَ : بِفَتْحِ الضَّادِ فِي الْحَرْفَيْنِ . أَمَّا الوجه فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأُمُورٌ : قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : الضِّيقُ بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَالْمَسَاكِنِ ، وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الضَّيْقُ . وَقَالَ
أَبُو عَمْرٍو : الضِّيقُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ ، وَالضَّيْقُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْغَمُّ . وَقَالَ
الْقُتَيْبِيُّ : ضَيْقٌ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ . وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا : إِنَّهُ تَصِحُّ قِرَاءَةُ
ابْنِ كَثِيرٍ .
البحث الثَّانِي : قُرِئَ " وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ " .
البحث الثَّالِثُ : هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمَقْلُوبِ ؛ لِأَنَّ الضَّيْقَ صِفَةٌ ، وَالصِّفَةُ تَكُونُ حَاصِلَةً فِي الْمَوْصُوفِ وَلَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ حَاصِلًا فِي الصِّفَةِ ، فَكَانَ الْمَعْنَى : فَلَا يَكُونُ الضَّيْقُ فِيكَ ، إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=127وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ ) هُوَ أَنَّ الضَّيْقَ إِذَا عَظُمَ وَقَوِيَ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُحِيطِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ ، وَصَارَ كَالْقَمِيصِ الْمُحِيطِ بِهِ ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى رَغَّبَ فِي تَرْكِ الِانْتِقَامِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ عَدَلَ عَنِ الرَّمْزِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَمَرَنَا بِالصَّبْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ كَأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي فِعْلِ الِانْتِقَامِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) فِي تَرْكِ أَصْلِ الِانْتِقَامِ ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ .
وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عَرَفَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20199_20077_20069الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ مَرْتَبَةً فَمَرْتَبَةً ، وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ ؛ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الوجه ، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ يَعْلَمُ الْعَاقِلُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ .
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128nindex.php?page=treesubj&link=28987_28729إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) مَعِيَّتُهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128الَّذِينَ اتَّقَوْا ) إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ
[ ص: 115 ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ؛ أَعْنِي التَّعْظِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، فَقَالَ : كَمَالُ الطَّرِيقِ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ ، وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ . وَقَالَ الْحُكَمَاءُ : كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17234هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْوَفَاةِ : أَوْصِ ، فَقَالَ : إِنَّمَا الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَالِ وَلَا مَالَ لِي ، وَلَكِنِّي أُوصِيكُمْ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ .
المسألة الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=126وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=32022كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَرْكِ التَّعَدِّي وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِآيَةِ السَّيْفِ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ ، وَلَا أَرَى فِيهِ فَائِدَةً ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِزَمَانٍ مُعْتَدِلٍ ، وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْحَقُّ عَزِيزٌ ، وَالطَّرِيقُ بَعِيدٌ ، وَالْمَرْكَبُ ضَعِيفٌ ، وَالْقُرْبُ بُعْدٌ ، وَالْوَصْلُ هَجْرٌ ، وَالْحَقَائِقُ مَصُونَةٌ ، وَالْمَعَانِي فِي غَيْبِ الْغَيْبِ مَحْصُونَةٌ ، وَالْأَسْرَارُ فِيمَا وَرَاءَ الْعِزِّ مَخْزُونَةٌ ، وَبِيَدِ الْخَلْقِ الْقِيلُ وَالْقَالُ ، وَالْكَمَالُ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ ذِي الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .