(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=24واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=25ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا )
[ ص: 148 ]
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=24واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=25ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين ، وبيان
nindex.php?page=treesubj&link=28900_28914المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه :
الوجه الأول : أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده ، والسبب الظاهري هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري .
الوجه الثاني : أن الموجود إما قديم وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام : "
التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين إحسانا ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله .
الوجه الثالث : أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ، ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى . وقد يكون أحد من المخلوقين منعما عليك ، وشكره أيضا واجب لقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013080من لم يشكر الناس لم يشكر الله "
nindex.php?page=treesubj&link=19620_18011وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين ، وتقريره من وجوه :
أحدها : أن الولد قطعة من الوالدين ، قال عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012314فاطمة بضعة مني " .
وثانيها : أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ، ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة ، والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير ، فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان .
وثالثها : أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز يكون في إنعام الأبوين فأصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه ، وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ، ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعا على هذا الوجه كان موقعه عظيما .
ورابعها : أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه ، وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط . فكان الإنعام فيه أتم وأكمل ، فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد ، فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين إحسانا ) والسبب فيه ما بينا أن
nindex.php?page=treesubj&link=29703_18011أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين .
فإن قيل : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات ، فأي إنعام للأبوين على الولد ؟ حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة ، وقيل
nindex.php?page=showalam&ids=11880لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك ؟ قال اكتبوا عليه :
[ ص: 149 ] هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج والولد :
وتركت أولادي وهم في نعمة الـ ـعدم التي سبقت نعيم العاجل
ولو انهم ولدوا لعانوا شدة ترمي بهم في موبقات الآجل
وقيل
للإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منة ، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي , أرتعني في نور العلم ، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد . ومن الكلمات المشهورة المأثورة : خير الآباء من علمك .
والجواب : هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، فسقطت هذه الشبهات . والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23nindex.php?page=treesubj&link=18004وبالوالدين إحسانا ) قال أهل اللغة : تقدير الآية : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا ، أو يقال : وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانا . قال صاحب " الكشاف " : ولا يجوز أن تتعلق الباء في (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين ) بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته . وقال
الواحدي في " البسيط " : الباء في (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين ) من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر ، وهذا المثال الذي ذكره
الواحدي غير مطابق ، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه ، والمثال المذكور ليس كذلك .
المسألة الثالثة : قال
القفال : لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة ، وبحرف " إلى " أخرى ، وكذلك الإساءة ، يقال : أحسنت به وإليه . وأسأت به وإليه . قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=100وقد أحسن بي ) [ يوسف : 100 ] وقال القائل :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في
nindex.php?page=treesubj&link=18004الإحسان إلى الوالدين :
أحدها : أنه تعالى قال في الآية المتقدمة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=19ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) [ الإسراء : 19 ] ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين ، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة .
وثانيها : أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى ، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة .
وثالثها : أنه تعالى لم يقل : وإحسانا بالوالدين ، بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وبالوالدين إحسانا ) فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام .
ورابعها : أنه قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23إحسانا ) بلفظ التنكير , والتنكير يدل على التعظيم ، والمعنى : وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا ، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة ، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء ، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ .
[ ص: 150 ]
(
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=24وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=25رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا )
[ ص: 148 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=24وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=25رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ) .
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِعِبَادَةِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، وَبَيَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=28900_28914الْمُنَاسِبَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لِوُجُودِ الْإِنْسَانِ هُوَ تَخْلِيقُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادُهُ ، وَالسَّبَبُ الظَّاهِرِيُّ هُوَ الْأَبَوَانِ ، فَأَمَرَ بِتَعْظِيمِ السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأَمْرِ بِتَعْظِيمِ السَّبَبِ الظَّاهِرِيِّ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُعَامَلَةُ الْإِنْسَانِ مَعَ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْعُبُودِيَّةِ ، وَمَعَ الْمُحْدَثِ بِإِظْهَارِ الشَّفَقَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ " وَأَحَقُّ الْخَلْقِ بِصَرْفِ الشَّفَقَةِ إِلَيْهِ هُوَ الْأَبَوَانِ لِكَثْرَةِ إِنْعَامِهِمَا عَلَى الْإِنْسَانِ فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ ، ثُمَّ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَقَدْ يَكُونُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مُنْعِمًا عَلَيْكَ ، وَشُكْرُهُ أَيْضًا وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013080مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ "
nindex.php?page=treesubj&link=19620_18011وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ نِعْمَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِثْلَ مَا لِلْوَالِدَيْنِ ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنَ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012314فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي " .
وَثَانِيهَا : أَنَّ شَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ عَظِيمَةٌ وَجِدَّهُمَا فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْوَلَدِ كَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ وَاحْتِرَازَهُمَا عَنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ كَالْأَمْرِ الطَّبِيعِيِّ ، وَمَتَى كَانْتِ الدَّوَاعِي إِلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ مُتَوَفِّرَةً ، وَالصَّوَارِفُ عَنْهُ زَائِلَةً لَا جَرَمَ كَثُرَ إِيصَالُ الْخَيْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ كَثِيرَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ تَصِلُ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ مَا يَكُونُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ الْعَجْزِ يَكُونُ فِي إِنْعَامِ الْأَبَوَيْنِ فَأَصْنَافُ نِعَمِهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِ ، وَأَصْنَافُ رَحْمَةِ ذَلِكَ الْوَلَدِ وَاصِلَةٌ إِلَى الْوَالِدَيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْعَامَ إِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مَوْقِعُهُ عَظِيمًا .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ إِيصَالَ الْخَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ لِدَاعِيَةِ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ ، وَقَدْ يَمْتَزِجُ بِهَذَا الْغَرَضِ سَائِرُ الْأَغْرَاضِ ، وَإِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْوَلَدِ لَيْسَ لِهَذَا الْغَرَضِ فَقَطْ . فَكَانَ الْإِنْعَامُ فِيهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِثْلَ مَا لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ ، فَبَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْخَالِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29703_18011أَعْظَمَ النِّعَمِ بَعْدَ إِنْعَامِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ نِعْمَةُ الْوَالِدَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَالِدَانِ إِنَّمَا طَلَبَا تَحْصِيلَ اللَّذَّةِ لِنَفْسَيْهِمَا فَلَزِمَ مِنْهُ دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْوُجُودِ وَحُصُولُهُ فِي عَالَمِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ ، فَأَيُّ إِنْعَامٍ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ ؟ حُكِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنَ الْمُتَّسِمِينَ بِالْحِكْمَةِ كَانَ يَضْرِبُ أَبَاهُ وَيَقُولُ : هُوَ الَّذِي أَدْخَلَنِي فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَعَرَّضَنِي لِلْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْعَمَى وَالزَّمَانَةِ ، وَقِيلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11880لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي : مَاذَا نَكْتُبُ عَلَى قَبْرِكَ ؟ قَالَ اكْتُبُوا عَلَيْهِ :
[ ص: 149 ] هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدِ
وَقَالَ فِي تَرْكِ التَّزَوُّجِ وَالْوَلَدِ :
وَتَرَكْتُ أَوْلَادِي وَهُمْ فِي نِعْمَةِ الْـ ـعَدَمِ الَّتِي سَبَقَتْ نَعِيمَ الْعَاجِلِ
وَلَوَ انَّهُمْ وُلِدُوا لَعَانَوْا شِدَّةً تَرْمِي بِهِمْ فِي مُوبِقَاتِ الْآجِلِ
وَقِيلَ
لِلْإِسْكَنْدَرِ : أُسْتَاذُكَ أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكَ أَمْ وَالِدُكَ ؟ فَقَالَ : الْأُسْتَاذُ أَعْظَمُ مِنَّةً ، لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ أَنْوَاعَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ عِنْدَ تَعْلِيمِي , أَرْتَعَنِي فِي نُورِ الْعِلْمِ ، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَإِنَّهُ طَلَبَ تَحْصِيلَ لَذَّةِ الْوِقَاعِ لِنَفْسِهِ ، وَأَخْرَجَنِي إِلَى آفَاتِ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ . وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمَأْثُورَةِ : خَيْرُ الْآبَاءِ مَنْ عَلَّمَكَ .
وَالْجَوَابُ : هَبْ أَنَّهُمَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ طَلَبَا لَذَّةَ الْوِقَاعِ إِلَّا أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ ، وَفِي دَفْعِ الْآفَاتِ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ إِلَى وَقْتِ بُلُوغِهِ الْكِبَرَ أَلَيْسَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ جِهَاتِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ ، فَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23nindex.php?page=treesubj&link=18004وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ : وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَأَنْ تُحْسِنُوا ، أَوْ يُقَالُ : وَقَضَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا . قَالَ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ " : وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ فِي (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ ) بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ صِلَتُهُ ثُمَّ لَمْ يُذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ صِلَتُهُ . وَقَالَ
الْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ " : الْبَاءُ فِي (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ ) مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ وَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ بِزَيْدٍ فَامْرُرْ ، وَهَذَا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ
الْوَاحِدِيُّ غَيْرُ مُطَابِقٍ ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ تَقْدِيمُ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ ، وَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ
الْقَفَّالُ : لَفْظُ الْإِحْسَانِ قَدْ يُوصَلُ بِحَرْفِ الْبَاءِ تَارَةً ، وَبِحَرْفِ " إِلَى " أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الْإِسَاءَةُ ، يُقَالُ : أَحْسَنْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ . وَأَسَأْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=100وَقَدْ أَحْسَنَ بِي ) [ يُوسُفَ : 100 ] وَقَالَ الْقَائِلُ :
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ
وَأَقُولُ لَفْظُ الْآيَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ كَثِيرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=18004الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=19وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) [ الْإِسْرَاءِ : 19 ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي بِوَاسِطَتِهَا يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبِرَّ بِالْوَالِدَيْنِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ مِنْ أَصُولِ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُفِيدُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَثَنَّى بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَثَلَّثَ بِالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَمُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الطَّاعَةِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : وَإِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ ، بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) فَتَقْدِيمُ ذِكْرِهِمَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23إِحْسَانًا ) بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ , وَالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ ، وَالْمَعْنَى : وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا عَظِيمًا كَامِلًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِحْسَانُهُمَا إِلَيْكَ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانُكَ إِلَيْهِمَا كَذَلِكَ ، ثُمَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا تَحْصُلُ الْمُكَافَأَةُ ، لِأَنَّ إِنْعَامَهُمَا عَلَيْكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ ، وَفِي الْأَمْثَالِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْبَادِيَ بِالْبِرِّ لَا يُكَافَأُ .
[ ص: 150 ]